موقع المعلم في المجتمع ـ أي مجتمع ـ موقع حيوي ممتاز، نظرا لما يناط به من وظائف التشكيل والبناء، الذي يمثل فيه التعليم والتثقيف وزرع القيم الجوهر والأساس، وترتفع أقدار المجتمعات بارتفاع قدر فئة المعلمين فيها، على مستوى ما يملكونه من خصائص ومؤهلات تتبلور في سلطة المعرفة والقيم، وعلى مستوى تقدير الهيئة الاجتماعية لموقعهم الريادي، وعرفانها لما يبذلونه من جهود شاقة للحفاظ على كيان المجتمع متماسكا سليما من الثغرات والأعطاب، مبرءا من العلل والأمراض، متحفزا للمكرمات وجلائل الأعمال، أما إذا تعلق الأمر بالمجتمعات الإسلامية، فإن موقع المعلم منها وفيها يتوطد بسمة الرسالية التي تستمد قوامها من مذهبية الإسلام التي تقتضي من المعلم أن يجمع في مهمته بين وظيفة التعليم ووظيفة التزكية اللتين تتلازمان وتتضافران في إنشاء وتشكيل المجتمع الإنساني المنشود، القادر على عمارة الأرض، وفق مراد الله عز وجل، ولا يجوز مطلقا في عرف تلك المذهبية أن يقع انفصال بين الوظيفتين المذكورتين، لأن ذلك معناه وقوع انفصام على صعيد عملية التنشئة وشرخ واختلال على مستوى البناء، يفضي تفاقمهما لا محالة إلى اضطراب أحوال سفينة المجتمع، وجنوحها نحو المجهول، وارتطامها بالكوارث والأهوال.
وموقع المعلم ووظيفته في هذا المقام، إنما هي تبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين الله عز وجل جوهر رسالته في كتابه الكريم بقوله: {هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} ومن هذا المنطلق شبه المعلم في المجتمع الإسلامي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي حصر رسالته في التعليم بقوله: ((إنما بعثت معلما)) فلاغرو أن يقول أمير الشعراء أحمد شوقي مترسما هذا المعنى الجميل، وهذه الحقيقة الخالدة عندما قال بحق:
قم للمعلم وفه التبجيـــلا *** كاد المعلم أن يكون رسولا
لقد ظلت هذه الصورة الجميلة المضيئة هي الطابع الغالب على مجتمعات تكتنفها شريعة الإسلام الغراء، ومنظومتها القيمية العصماء، إلى أن هبت علينا من جهة الغرب ريح سموم، استهدفت -ولا تزال- تجفيف منابع الخير في كياننا وطمس قيم النقاء والوفاء، فلا غرابة -في ظل وضع ثقافي منكوس- أن نصبح ونمسي على أخبار مريعة مرعبة، تحمل إلى الناس صورا منكرة من العدوان على من استودعهم المجتمع فلذات أكباده لإعدادهم الإعداد المطلوب، حتى يكونوا عناصر قوة وإغناء لسفينته وهي تخوض لجج الحياة بمكارهها وتحدياتها ومهماتها الصعبة التي لا يتجرد لها ويقوى عليها إلا الأقوياء الأمناء، وممن ذلك العدوان؟ ممن يقعون منهم موقع البنوة الثانية: من التلاميذ، ويا ليت هذا الذي جرى متعلق بحالات معزولة تدخل في نطاق الاستثناء، ولكنه للأسف الشديد أصبح يتخذ طابع العموم والاستشراء.
لم يكن يخطر ببال أحد في عهد غير بعيد، أن تأتي على مجتمعاتنا عهود نكدة يتعرض فيها المعلم للضرب والتعنيف ممن له عليهم فضل الإخراج من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية والعلم، بل وأن يتعرض بعضهم لمحاولة الذبح من القفا وهو يباشر الكتابة والشرح على سبورة الفصل، حتى جاز لأحد الكتاب الصحفيين، أن يقول على سبيل المعارضة المفعمة بالحزن والأسى: كاد المعلم أن يكون مذبوحا، إشارة لأحد أساتذة مدينة سلا الذي وقعت عليه محاولة الذبح.
عندما نصل إلى هذا الحد من التسيب والاستهتار، فمعنى ذلك أن مجتمعنا يكون قد قطع أشواطا بعيدة وعميقة في التحلل والتآكل والفساد، تراكمت في غفلة، أو في ظل تواطؤ مريب للإجهاز على سفينة المجتمع، تولى كبره طوابير من المفسدين، لا يستثنى من زمرتهم كثير ممن دخلوا إلى السفينة متلصصين أو سافرين متلفعين بشعارات الإصلاح، وماهم منه في شيء، بل إنهم كانوا -ولا يزالون- يمثلون رأس الرمح فيما يصيب منظومتنا التعليمية والتربوية من تصدعات وجراح.
إننا ونحن نتأمل هذه الظاهرة المأساوية التي لا تمت بسبب انتساب إلى مجالنا الحضاري، لا بد أن تتراءى لنا وهي تمتد بشكل سافر في عوامل التقصير التي أسلمت ليس منظومتنا التعليمية، فحسب، إلى رياح التغريب والتصفيق (من الصفاقة)، وإنما أسلمت سفينتنا برمتها إلى تلك الرياح تعبث بها بلا هوادة.
ما أصدق أن نتمثل في هذا المقام بقول من قال:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال لــــه *** إياك إياك أن تبتل بالماء
فمن المستحيل أن نطالب منظومة مشروخة متصدعة في أغلب أجزائها، متوعكة في جل مفاصلها، ثم هي تسبح في سديم من الجراثيم والفيروسات التي تخترق منظومات الثقافة والاقتصاد والاجتماع و الفن والإعلام وغيرها، من المستحيل أن نطالب من منظومة هذا شأنها أن تخرج لنا أجيالا مبرأة تنشد السلم والأمان، وتتحلى بقيم العرفان والوفاء، وتتوخى الإصلاح والبناء.
إن منظومة هذا ديدنها لا يمكن إلا أن تفجعنا، باستمرار، في معلمينا وتلامذتنا، بسبب اختلال القيم الذي اختل معه الميزان، ولا نستغرب أبدا أن يتعرض بنياننا الاجتماعي لنزيف رهيب، ما دامت حياتنا موزعة بين غيبوبة عما يراد بنا من شر ويكاد لنا من مكائد، وبين سلوك عبثي يقوم على التلفيق والترقيع، والنأي بتحليلاتنا عن مواطن الداء.