ليست “البلطجة” لفظا عربيا، ومع ذلك فإنه قد فرض نفسه على المجال التداولي في طول البلاد العربية وعرضها، بعد هبوب رياح الربيع العربي، التي وفرت المناخ السوسيولوجي لتجذره في ذلك المجال، بسبب بروز دواعيه الوصفية والتعبيرية المرتبطة ببروز تيار مناهض للإصلاح آل على نفسه أن يجدف في الاتجاه المعاكس لرياح الربيع، ولم يمنعه من هذا التجديف الغريب، كون تلك الرياح قد طوحت في طريقها اللاحب برؤوس من الطغاة الذين جثموا على صدور الأمة، وحولوا حياة أبنائها إلى جحيم طوال عهود مريرة سوداء من الظلم والفساد، وراح أصحاب ذلك التيار يحشدون كل ما لديهم من وسائل، ويحشرون كل ما تجمع لهم من قض وقضيض، لقتل حبوب اللقاح التي نشرتها رياح الربيع في كل مكان، مخافة أن تتكاثر أشجار النخيل على حساب الحشائش الطفيلية التي تفسد الزرع النافع وتقلل من جودة الثمار، بل وقد تؤدي في حالة تكاثرها، بسبب عدم تعهد الأشجار بالعلاج، إلى انعدام الغلة مطلقا، إلا من حشف لا يسمن ولا يغني من جوع.
فالبلطجة -إذن- فعل فوضوي مشاكس معاند، يسعى بكل ما يختزنه من كراهية وحقد وضغائن لسفينة المجتمع، إلى إحداث خروق في تلك السفينة بهدف إغراقها في نهاية المطاف، تحت ذريعة إنقاذها وبذل النصح لأهلها وحب الخير لهم، والحال أنهم يدركون في قرارة أنفسهم أنهم يمارسون عملية النقب المستمر في جدار السفينة، ما دام قد حيل بينهم وبين الإمساك بمقاليدها وتقرير مصيرها وفق تصورهم للحال الذي ينبغي أن تكون عليه، وهو حال يمثل عين البؤس وعين البوار، بل ويحمل في طيه عوامل الإفلاس والاندثار.
يذكر البعض في سياق تعريف “البلطجي”، وهو من يقوم بعمل “البلطجة”، أن أصله تركي، ويتكون من مقطعين: “بلطة” و”جي” أي حامل “البلطة” و”البلطة” كما هو معروف، أداة للقطع والذبح. ويتضح من هذا أن العملة التي يتعامل بها البلاطجة مع الوقائع والأحداث، ومع من يوجد معهم على ظهر نفس السفينة، هي عملة العنف بجميع أشكاله المادية واللفظية، علما بأن هذه الأخيرة تمتد من السخرية إلى التهديد والوعيد، ومن شأن البلاطجة أن يغيروا مواقعهم وينوعوا أساليبهم بحسب الملابسات والظروف، فهم قبل الربيع العربي جزء لا يتجزأ من المشهد الاجتماعي والثقافي وحتى السياسي، ينزرعون في كل زاوية من زوايا السفينة كما تنزرع الدمامل في الجسم العليل، وتجد من التغطية والحماية ما يمكنها من إفراز قيحها وصديدها ونقع سمومها لتعكير الحياة وتنغيصها على الناس، وهم بعد الربيع جسم منبوذ مكتوب على ناصيته” شرير ممقوت”، بحيث لا تخطئه عين أي واحد من الأسوياء، فضلا عن الأشقياء، وهذا ما جعله محط حذر وصد ومحاربة من قبل أهل السفينة الذين دأبوا على تسليط عين الرقابة عليهم، مخافة أن يعمدوا إلى تلك السفينة فيعمقوا خروقها في أي لحظة من ليل أو نهار.
ويمكن التمييز في “البلاطجة” بين الشريحة العادية المخولة باختراق الجموع واستعمال ما بأيديها من “بلطات” لإحداث الجراح وصنع الترويع في صفوف الشعب، لتحويل ربيعه إلى خريف يعصف بالأشجار ويسقط الثمار، وبين الشريحة الثقافية والفكرية التي تسند الشريحة الأولى بما تنتجه من نظريات وأفكار، حتى يظهرا معا في صورة التيار المتماسك والشرعي الذي يملك رؤية محترمة للأشياء، وخطة محكمة للتأسيس والبناء، وهيهات أن ينخدع الناس بمظاهرهم وما يخرج من أفواههم من أكاذيب وأوهام، والحال أنهم قد خبروا أفعالهم المنكرة قبل الربيع، واكتووا بنيران فسادهم الذي ضجت منه الأرض والسماء وما بينهما.
ويعرف البلاطجة من خلال سمات تدل عليهم من لا يعرفهم، فهم ديمقراطيون حتى النخاع، حين توصلهم الصناديق بتسعاتها المزورة إلى سدة الحكم، وهم أعداء الديمقراطية حين تصان صناديقها من لوثة التزوير، فتسفر عن خلق هم والبلاطجة على طرفي نقيض، وهم لا يتورعون عن نقض أبرز الأبجديات التي تتأسس عليها الديموقراطية، من قبيل “الأغلبية” و”الأقلية”، وضرورة نزول الثانية على رأي الأولى احتراما لصوت الشعب، فضلا عن احترام ما يسمى ب ” قواعد اللعبة”، فلم يستحي بلاطجة أرض الكنانة من رفض نتيجة الاستفتاء على الدستور الجديد، رغم مشاركتهم في التصويت عليه ب”لا”، فقد كانوا يتوهمون أن الصناديق ستسقطه، ولما لم يتحقق لهم ذلك، رفضوه تحت طائلة التحريف المصطلحي الذي أسعفهم بإنتاج ضمائم مصطلحية من قبيل:” الأقلية الكثيرة” و” الأغلبية القليلة”، ويذكرنا هذا الموقف السخيف بتلك النكتة الطرقية نسبة لقانون الطريق أو المرور، والتي تقول بأن أحد السائقين اخترق الضوء الأحمر، فلما أوقفه الشرطي مواجها له بمخالفته أجابه على الفور: “ماشي شي حموريا” أي أن اللون الأحمر ليس بالحمرة الكافية.
أما بلاطجة المغرب فنذكر على سبيل المثال ما ورد على لسان أحد منظريهم، في معرض لمز من رشحهم نقاؤهم وصدقهم وإخلاصهم لله وللوطن، من أنهم يستثمرون ما سماه ب “الربيع الديني” في العمل السياسي، مما يجردهم من فضل التفوق على حساب الطبقة السياسية التي أثبتت فشلها في النزال السياسي.
فالنزعة البلطجية -إذن- نزعة خطيرة على الأمن” الديمقراطي” في الوطن العربي، وهي ريح فاسدة ومدمرة تتربص بسفينة العرب، وإذا كان منظرو هذه النزعة أي مثقفوها ومفكروها المتمسحون بمسوح العلمانية لا يعدمون من يلقمهم أحجارا منطقية تسد أفواههم التي تمارس الهذيان بأي شيء، فإن المشكل يبقى قائما في الجناح الآخر الذي يمارس العنف المادي دون رقيب ولا حسيب، ويعيث في الوطن فسادا بخيله ورجله، وهو لا يلوي على شيء، لأنه لا يأبه بما يصيب الوطن من ضياع وخراب، وقد صدق أحد من يصيبون البلاطجة في مقتل: الأستاذ محمد شركي حين قال في مقال تحت عنوان: “من عجائب هذا الزمان تباكي العلمانية على اللعبة الديمقراطية مع رفض ما تمخض عنها بعد الربيع” : “فهل سيسعف الرهان على فوضى البلطجية العلمانية المحلية لإفساد مباراة اللعبة الديمقراطية حيث يضطر حكم هذه المباراة إلى توقيفها بسبب هذه الفوضى ؟ ذلك ما ستكشف عنه الأيام المقبلة. وإذا عاد اعتبار الربيع الديني منشطا ممنوعا في اللعبة الديمقراطية كما كان الحال قبل الربيع، فالله أعلم بما سيكون عليه الوضع في طول الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، ولن تبقى أبدا قيمة ولا مصداقية للعبة الديمقراطية التي لا تعتبر مقبولة في عرف العلمانية إلا إذا كان الفائز فيها علمانيا علمانية تصريحية أو مكنية.