قال الله جلت حكمته : {يوم تشقّق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير. نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}
ويستمر الوصف للحظة البعث، وانطلاق الحشر ههنا في سورة ((ق))؛ في لقطة حية تزيد المؤمن ثقة بربه، وتزوده مدداً إيمانيا لمواجهة أعدائه، فيقول جل جلاله تتمة لوصف يوم الحق :{يوم تشقّق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير}، وإنها لتشقق عنهم كما تشقق عن النبات، وعن رؤوس الفسائل الصغيرة، وقرئت ((تشّقَّقُ)) بتضعيف الشين وبتخفيفها، والمقصود واحد. وفيها إيحاء لطيف بمشهد حركة الإنبات المتكررة على الأرض، كما بُيّنت في أول السورة، تربو الأرض أولا وتهتز، ثم تشقق فتخرج الشجيرات فسائل طرية ندية، فلا تزال تنمو حتى تصير أشجاراً! كذلك تخرج أجساد بني آدم من قبورها وأجداثها. وقد سبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ((ثمّ ينزِل الله من السّماء ماء فينبتون كما ينبت البقْل!))(1) حتى إذا تم خلقها واستوى، أُمر الملك بالنفخ في الصور، فتتدفق الأرواح من عالم البرزخ، كل روح يتنزل على جسده لا يخطئه ولا يضل عنه أبداً! وما هي إلا لمحة خاطفة؛ حتى تكون الحياة قد انتفضت في أجساد البشرية جميعاً! فيخرج الناس من ترابهم إلى ربهم سِراعا، يساقون إلى ساحة الحشر، وهم ينقلون الأقدام الحافية على الأرض مسرعين! وإنه لبعث يسير، وإنه لحشر يسير، يسير أمره وتكوينه على الخالق العظيم، الذي يقول للشيء : كن فيكون! هذا الأمر الذي ينكره الكفرة، ويحيله الجهلة بالله.. إنه أهون على الرحمن وأيسر، وكيف لا؟ وهو الذي خلق السماوات والأرض من قبل ولم يعْي بخلقهن، ولا بخلق من فيهن! خلق كل ذلك جميعاً ولم يكن شيئا مذكوراً. فسبحانه وتعالى عما يصفون ويتوهمون!
ويختم الرحمن جلت عظمته السورة بهذه الآية المنهاجية الجامعة : {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد} وهذه تسلية كريمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيه منهاجي له صلى الله عليه وسلم ولكل داعية إلى الخير بعده؛ إذ يخاطبه الرحمن جل ثناؤه بهذا الإعلام الكريم : {نحن أعلم بما يقولون}.
وإن من قوة هذا القرآن أن الرب الجليل سبحانه، متكلم به مع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع الناس أجمعين، يتكلم بضمير المتكلم الحاضر الدال على العظمة، هكذا (نحن). وتصغي -وأنت تتلو القرآن- إلى الله يخاطبك! فما أجله من مقام وما أعظمه من خطاب! هو الرحمن جل جلاله يعْلم عبده الداعي إليه بأنه أعلم بمقالات الكفار، وأعلم بترّهاتهم ومكائدهم! وكفى بهذه الحقيقة دلالة على أن كل مساعيهم الشريرة ستؤول إلى الخسران المبين، وإلى الفشل الذريع، وأن كل مقولاتهم وأراجيفهم ستتحطم أمام سيل الحق الهادر! فالله جل جلاله هو الذي يقود معركة الحق من فوق عرشه! وكفى بذلك طمأنينة وسكينة للقلب المؤمن، وكفي به دلالة على معرفة نتيجة المعركة الفاصلة، وكفى به زاداً إيمانياً عظيماً، يغذي القلب بوارد الثقة بالله! ومن ثم يبين الرحمن سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة هذه الرسالة الإلهية، وطبيعة هذه الدعوة الربانية، وطبيعة وظيفته إزاءها، وشكل مسؤوليته تجاهها، وأنما هو عبدٌ مبلغ عن الله، يقيم حجة القرآن على الخلق، ويبين لهم حقائق الإيمان، وما عليهم من حقوق الخالق العظيم، ببلاغ قرآني مبين، لا إكراه فيه، ولا إعنات، ولا تجبر : {وما أنت عليهم بجبّار…}! كما قال سبحانه في سورة الغاشية : {فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمصيْطر}(الغاشية : 21- 22).
فدعوة الإسلام ليست دعوة إكراه، يتولاها طاغية جبار، فيقهر بها الناس قهراً، كما هو شأن كثير من الفلسفات والإيديولوجيات المظلمة، التي حكمت في العصر الحديث كثيراً من الشعوب المستضعفة بالحديد والنار! وسلطت على كل من خالفها زبانية التعذيب والتقتيل والتشريد! إن الإسلام دين رحمة، ودين قوة في نفس الوقت، يعرض عقيدته على الخلق بالحجة والبرهان. يخبر الناس بحقيقة الحياة الدنيا وطبيعة الوجود البشري فيها، ويعرف الخلق بخالقه، وبما له تعالى عليهم من حقوق الألوهية، ثم يكِلُهم إلى عقولهم واختياراتهم، فمن اختار الشكر فقد سَلِم وأسلم، ومن اختار الكفر فقد تمرد على الله؛ ولذلك خلق الله الجنة والنار. فما الرسول إذن إلا نذير مذكِّر، يُذكّر البشرية بهذا القرآن {فذكر بالقرءان من يخاف وعيد} ذلك أن كلمات القرءان إنما تقع موقع الإيمان من القلوب المشفقة من اليوم الآخر، ومن الفِطَر السليمة التي تصغي إلى وعيد الله ونذيره؛ فتدرك أنه الحق، ولا تعميها الأهواء والشهوات عن الاستجابة لله ولرسوله، بل تدخل في أمان الإيمان طائعة راضية، وتعيش في سلام دائم مع الله.
تلك هي طبيعة هذا الإسلام، وتلك هي دعوة هذا القرآن، فإنما هي كلمة الهدى يلقيها الداعي المبلغ في الناس، فمن آمن فقد أسلم لربه، ومن كفر فإنما على الرسول البلاغ، وحساب الآخرة غير بعيد. وإنما الهدى من الله وما ربك بظلام للعبيد.
د. فريد الأنصاري
—–
1- جزء حديث متفق عليه.