فـي سحــر الـبـيـان
روى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((جاء رجلان من المشرق فخطبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن من البيان لسحرا))(1).
وفي رواية أخرى ((فخَطبا فعجِب الناس لبيانهما))، فيكون كلامُ النبي صلى الله عليه وسلم مرتبطاً سياقيا بإعجاب القوم لبيان الرجلين(2).
والسياق في رواية عند الإمام أحمد ((أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلَّم بكلام بيِّن))(3).
أما في المستدرك فالسياق هو قدوم قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافتخار الزبرقان بقوله: ((يا رسول الله! أنا سيد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب فيهم، أمنعهم من الظلم، فآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذاك، يعني عمرو بن الأهتم. فقال عمرو بن الأهتم: والله يا رسول الله إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في ناديه. قال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم ما قال، وما منعه أن يتكلم به إلا الحسد، قال عمرو: أنا أحسدك؟! فوالله إنك لئيم الخال، حديث المال، أحمق الموالد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقتُ فيما قلتُ أولا، وما كذبتُ فيما قلتُ آخرا، لكني رجل رضيتُ فقلتُ أحسن ما علمتُ، وغضبتُ فقلتُ أقبح ما وجدتُ، ووالله لقد صدقتُ في الأمرين جميعا)) (4).
وإذا كان في رواية البخاري أن رجلين قدما من المشرق، وأنهما خطبا، ففي رواية الحاكم أن الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم خطبا، وقد قدما من المشرق؛ لأن موطن قبيلة تميم شرق المدينة المنورة، وعلى هذا يكون الحديث قد ورد عامَ الوفود سنة تسع للهجرة لما قدم وفد تميم على النبي صلى الله عليه وسلم.
ولنا مع القول النبوي ((إن من البيان لسحرا))؛ ثلاث وقفات: الأولى مع البيان، والثانية مع السحر، والثالثة مع العلاقة بينهما.
أما البيان فأصله الكشف والظهور، وله معنيان: ((أحدهما ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم))(5)، فهو بهذا المعنى ((إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب))(6).
وأما السحر فأصله صرْف الشيء عن حقيقته إلى غيره(7)، وهو الأخذة كأخذ العين حتى يُظن أن الأمر كما يُرى وليس الأصل كذلك(8)، وهو يطلق -مما يطلق عليه- على ((كل ما لطف مأخذه))، و((البيان في فطنة))(9).
وبناء على ما سبق فإن بين البيان والسحر شبَها من وجهين(10):
أولهما القدرة على استمالة القلوب، والتأثير عليها انبساطا وانقباضا.
والآخر القدرة على تحسين القبيح، وتقبيح الحسن.
ومن ذلك يفهم أن البيان قد يدِقّ ويلْطف بما يحوزه من بلاغة وبراعة في اللفظ والمعنى فيفعل في النفوس فعْل السحر، ومن ثم يمكن الحديث عن سحر البيان.
ولابد أن نلاحظ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن سحر البيان خمسة أمور:
أولها أنه يتحدث عن سحر البيان في مجال القول لا الرؤية البصرية؛ إذ السياق هو سماع كلامِ والتعليق عليه، وهذا الأمر يجعل علاقة السحر بالبيان في القول النبوي محصورة في القدرة على التصرف في القول تصرفا مثيرا للانتباه، ومؤثرا في النفوس.
وثانيها أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن سحر البيان باستعمال (مِنَ) الدالة على التبعيض، ومنه يفهم أنه ليس كل بيان ساحرا، أي ليس كل بيان يفعل فعل السحر في النفوس.
وثالثها أن البيان المتحدث عنه هو البيان الساحر الصادق الذي يستمد سحره من الصدق ومراعاة المقام، واختيار اللفظ المناسب للحظة المناسبة.
ورابعها أن سحر البيان عام يحتمل حكمين: الذم والمدح، قال ابن عبدالبر: ((اختلف في المعنى المقصود إليه بهذا الخبر، فقيل: قصد به إلى ذم البلاغة إذ شبهت بالسحر، والسحر محرم مذموم، وذلك لما فيها من تصوير الباطل في صورة الحق والتفيهق والتشدق… وإلى هذا المعنى ذهب طائفة من أصحاب مالك، واستدلوا على ذلك بإدخال مالك له في موطئه في ((باب ما يكره من الكلام)) (11)، وأبى جمهور أهل الأدب والعلم بلسان العرب إلا أن يجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحرا)) مدحا وثناء وتفضيلا للبيان وإطراء، وهو الذي تدل عليه سياقة الخبر))(12).
والذي تطمئن إليه النفس وتدعمه “سياقة الخبر” هو أن التعليق النبوي وارد في سياق مدح البيان الساحر بما حازه من صدقٍ وإجادة اختيار نوع الإضاءة وزاويتها، فقد اختار المتكلم الكلمة المناسبة في الوقت المناسب دون أن يتورط فيما يشينه أو يشين كلامه.
وخامسها أن في السماع النبوي للبيان الساحر ومدْحه حضّا لنا على طلب عناصر السِّحْر في البيان ومراعاتها ليكون بياننا ساحرا، أو على الأقل ليكون فيه سحْرٌ.
————
1 – صحيح البخاري، 3/360، حديث رقم 5146، كتاب النكاح، باب الخطبة.
2- صحيح البخاري، 4/33، حديث رقم 5767، كتاب الطب، باب إن من البيان لسحرا.
3- المسند، 3/228، حديث رقم 2761، كتاب الطب، باب إن من البيان لسحرا، وقد صححه محققه.
4- المستدرك، 4/805، حديث رقم 6627، وقد سكت عنه الحاكم، وعلق عليه محققه بقوله: “الحديث بطرقه حسن”.
5 – فتح الباري، 10/237.
6- النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/174، مادة +بين؛.
7- لسان العرب، 4/348، مادة ؛سحر+.
8- م.س.
9 – لسان العرب، 4/348، مادة ؛سحر+.
10- تفسير الفخر الرازي، 3/223-224.
11- الموطأ، ص: 682، حديث رقم 3، كتاب الكلام والعينة والتقى.
12- التمهيد لابن عبدالبر، 5/170.