تعيش الأمة مخاض ولادتها الجديدة منذ مدة غير قليلة، وإبان هذه الفترة ظهرت مشروعات فكرية ونظرية عديدة حاولت أن ترسم خارطة الطريق نحو نهضة جديدة فبعضها نال حظا من الذيوع والانتشار والقبول، وكثير منها مني بالفشل الذريع والانحسار وسرعة الذبول رغم قيمته ووجاهته.
ومن أهم الأسباب التي حرمت الأمة من ثمار هذه الجهود الطيبة أنها جاءت ـ في غالبها ـ مبادرات فردية متباعدة في الزمان والمكان والرؤية، وافتقرت إلى التنسيق والتكامل، وأحيانا جاءت جزئية افتقرت إلى الرؤية الشمولية المتكاملة والمتوازنة، وأحيانا ثالثة ظلت محلية في مصدرها دون أن تعمم للاستفادة منها أفقيا وعموديا، وأحيانا أخرى جاءت مغرقة في النظر بعيدة عن الواقع وإمكان تطبيقها وتحويلها إلى مشروعات عملية، وغاب عن كثير من هذه الجهود المباركة روح النظر الكلي والشمولي، وروح التنسيق والتشاور من أجل ترشيد طاقات الأمة نحو التكامل لا التآكل، والتضافر لا التنافر، والتكاثف والتكاثر لا التناحر والتناثر، والتعاضد لا التعارض، والتعارف لا التناكر، والموالفة والتلاقي لا المخالفة والتجافي.
إن الأمة اليوم لهي في أشد الحاجة إلى العمل المؤسساتي في مختلف المستويات وفي كل ما يسع من المجالات والتخصصات، وهي اليوم في أشد الحاجة، بعد ذلك وقبله، إلى مؤسسة أُمٍّ رابطةٍ جامعةٍ، رابطةٍ ترعى كل ذلك، وتجمع شتات ما تفرق، وتسدد من الجهود ما تكرر، وجامعةٍ تمتلك النظر الكلي البعيد، والتصور الاستراتيجي الشمولي والسديد، وتقتدر على التحاور والتشاور، والتكامل والتنسيق، وعلى التوجيه والجمع، لا التفريق والتشتيت.
إن جسم الأمة أصبح يمتلك، أكثر من أي وقت مضى، أجهزة سليمة، وجهودا قويمة، وعزائم حكيمة، وطاقات قوية وأمينة، وأعمالا رصينة؛ غير أن الأمة ستظل محرومة من كل نتائج هذه الخيرات والمقدرات في غياب مثل هذه الرابطة الجامعة النافعة.
وإن أهم مجال ينبغي أن تصرف إليه العناية كل العناية وتبذل فيه الجهود إلى أقصى حد وغاية لهو مجال البحث العلمي والعمل الاجتماعي:
فالأول يكفل للأمة حصر مواطن الخلل فيها، ومواطن النقص والحاجة لديها، ويرصد لها أنجع الوسائل والإمكانات، ويرسم لها أهدى السبل وأقوم المسارات، ولن يتحقق مثل هذا ما لم تنشأ مراكز علمية للبحوث والدراسات، تكون متعددة متخصصة متجددة في موضوعاتها، متكاملة في وظائفها، وراشدة في تصورها وتصرفها، ولن يكون لهذه المراكز أثر قوي ما لم ترعها وتتعهدها مؤسسة علمية هي بمثابة الأم الجامعة؛ والرابطة النافعة بكل خير ونعمة والدافعة لكل شر ونقمة، وظيفتها الإشراف الكلي على مراكز البحث تقويما وتجديدا تنسيقا وتكاملا، اعتمادا وإيجادا.
والثاني هو العمل الاجتماعي، فهو بمثابة الصورة التطبيقية والوجه العملي للبحث العلمي، فالأمة في حاجة ماسة إلى مؤسسات ومراكز العمل الاجتماعي تتنوع بقدر تنوع القطاعات والمجالات وتتعدد بقدر تعدد الحاجات، وتتجدد وتتوالد بقدر تجدد القدرات وتوافر الإمكانات، ولن يؤتي هذا العمل أكله الحقيقي أيضا ما لم ترتبط مؤسساته في رابطة جامعة كلية، وظيفتها أولا رعاية الموجود تفعيلا وتنسيقا وتكميلا وتلحيما، وثانيا التفكير في المفقود تأسيسا وإنشاء وتتميما، إذ قوة الجسم في قوة أعضائه وأجهزته، وقوة الأعضاء والأجهزة في تلاحمها وتكامل وظائفها، وفي توحد جهودها وغاياتها، وفي الاستثمار الأمثل لإمكاناتها.