314 نحن والثقافة الغربية
هل أن كل ما يطلع في الغرب من جديد في مجال العلوم الإنسانية، وليس الصرفة أو التطبيقية، هو علمي وصائب بالضرورة، وأنه ـ بالتالي ـ منزّه عن النقص لا يقبل نقضاً ولا جدلا؟ وإذا كان تراكم الخبرة في العلوم الصرفة والتطبيقية، يقود ـ في معظم الأحيان ـ تقدماً نحو الأحسن، فهل ينسحب هذا على العلوم الإنسانية منهجاً وموضوعا؟
هل يتحتّم علينا تقبّل كل جديد يطلع هناك، واحتضانه واللهاث وراءه باعتباره حقا مطلقا؟ أم أنه يتحتم علينا ـ في المقابل ـ أن نرفض هذا الجديد بحجة أن لنا ديننا وتصوّرنا وخبراتنا؟
هل أن كل جديد يطلع هناك يتضمن ـ بالضرورة ـ خبرات جديدة بالكلية، أم أنه يأخذ خبرات سابقة ثم يحاول التركيز على جزئية ما من جزئياتها ومحاولة مطّها لكي تصبح منهجاً للعمل في مجال هو أكبر بكثير من قدرتها على الفعل والتغطية؟
وهل يتحتم على الأديب المسلم بالذات أن يركض وراء الموجات القادمة من هناك خشية أن يتهم بالجهل والتخلّف، حتى يكاد ينسى مهمته الأساسية وهي مواصلة العمل والعطاء المشبع بالرؤية الإسلامية واعتبار ذلك وظيفته الأساسية، من أجل أن يفرض هذا الأدب في ساحات العالم على مستوى المنهج والموضوع.. النقد والإبداع؟ في زمن أصبح (الملل) و(التقلب) يحكم العقل الغربي حتى في العقائد والفلسفات والمذاهب الأدبية فيجد نفسه منساقاً إلى التنقل من حال إلى حال دون أن يستقر على شيء؟
إن المعضلة ترتبط -بكل تأكيد- بالمسألة الأكبر والأخطر والتي طالما نوقشت وعرضت ازاءها وجهات النظر المختلفة، تلك هي مسألة تحديد الموقف من حضارة الغرب المتفوقة التي تكاد تقتلعنا من الجذور، وتضيّع خرائطنا، بإضافتنا إلى مساحاتها المفتوحة..
وبإيجاز شديد يفرضه مقال كهذا فان الأخذ المطلق أو الرفض المطلق يمثلان
خطيئة في حالة كهذه : حالة ثقافة تجد نفسها بمواجهة ثقافة أخرى تريد أن تغزوها وتمحو شخصيتها.. فإن الأخذ المطلق سيدمّر هذه الثقافة، كما أن الرفض المطلق سيصيبها بالتحجّر. فليس ثمة إذن غير الأخذ بمقدار.. الأخذ الممّحص الذي يعرف كيف يختار ويوازن وينتقي في ضوء معايير ثابتة مستمدة من العقيدة التي تنبثق عنها ثقافة كهذه، ومن التصوّرات الأساسية التي تطرحها هذه العقيدة. وحينذاك فقط تجد الثقافة المتحدّاة فرصتها للتحقق عن طريق تحصين ذاتها من جهة، وإغنائها بالعناصر الثقافية التي لا ترتطم بثوابت هذه الذات، من جهة أخرى.
استجابة موزونة كان القرآن الكريم والرسول قد منحانا مفاتيحها في حشد من الآيات والأحاديث، وكان الأجداد، بتعاملهم مع الحضارات التي جابهتهم، عبر انتشارهم في العالم، قد علمونا كيف يكون اختيار السبيل الوسط الذي لا يقود إلى التشنج ولا إلى الذوبان.
إن هذا الموقف ينسحب، أو يجب أن ينسحب على تعاملنا مع سائر جزئيات الثقافة الغربية بما فيها المناهج والمذاهب والفلسفات.. في عصر الحداثة الذي أصبح الغربيون يركضون فيه إلى حدّ اللهاث ويغرون الآخرين باللحاق بهم رغم أن خاتمة المطاف قد تكون الهلاك الذي يحيق بالجميع!