د. ابراهيم بن البو – الرشيدية
إن نظرة الناس للأمور وتصورهم للحقائق يختلف باختلاف مرجعياتهم الدينية والفلسفية ويتباين بتباين إيديولوجياتهم الفكرية.
ومن بين تلك المفاهيم التي عرفت تباينا كليا بين المرجعيتين الغربية والإسلامية، مفهوم الفلاح فما حقيقته؟
الفلاح في المرجعية الغربية:
لقد تأسست المرجعية الغربية وأقيمت دعائمها على ثوابت الفلسفة اليونانية ومنطقها العقلي المجرد وعلى تصورات الوثنية الإغريقية وأفكار الفلسفة المادية التي رأت النور بعد انحصار دور الكنيسة بسبب انحراف رجالاتها وغلوهم في فرض سلطتهم بغير حق، فغالت هي الأخرى في تأليه العقل البشري وتقديس المادة ومحق الروحانيات، لينتهي بها التاريخ -كما زعم بعض مفكريها- في أحضان ليبرالية متوحشة تحتكم في كل أمورها إلى منطق السوق وإلى الفلسفة المكيافيلية النفعية، فأثر ذلك سلبا على فهم معتنقيها وتصورهم للحياة والكون والآخر.
فالفلاح في هذه المرجعية المؤمنة بالنفعية و الفردانية يتوقف على امتلاك الوسائل المادية التي تضمن للإنسان -فردا وجماعة- قسطا وافرا من الراحة والدعة والرفاهية ونسبة من رغد العيش المادي الدنيوي حتى ولو كان ذلك على حساب إنسانيته وجمال فطرته وسلامة صحته النفسية.
وتمشيا مع هذه النظرة الجشعة غير المتوازنة سعت بعض الدول الغربية الليبرالية بكل ما أوتيت من قوة إلى تحصيل الثروة والسيطرة على مصادرها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، منها استدعاء مجموعة من الذرائع وتأليب بعض المؤسسات الدولية لغزو بلدان تزخر أراضيها بالمواد الأولية والثروات الطبيعية كالعراق وأفغانستان…كما شرعت لنظام اقتصادي ربوي لسلب أموال الناس وأكلها بالباطل، وعملت على تعميمه باسم العولمة، ناهيك عما قامت به في بداية مشوارها من إبادة لشعوب بكاملها واسترقاق لبعضها ضمانا لليد العاملة.
فكان من نتائج هذه النظرة المادية لمفهوم الفلاح تحكم طائفة قليلة من الرأسماليين في أرزاق فئات عريضة من الكادحين، و تجويع الملايين، والأنكى من ذلك والأمر استقواء الدول القوية على الضعيفة.
وقد تشرب الأفراد أيضا هذا المفهوم، حيث يعتقد أكثر الغربيين أن الإنسان الناجح هو الذي يمتلك أكبر رصيد بنكي ويقتني ما يريد من الوسائل الضرورية والتحسينية ويتلذذ بطيبات الدنيا حتى التخمة، والذي يحظى بوضعية اجتماعية راقية تكسبه احترام وتوقير الآخرين وتخوله قضاء جميع مآربه وإشباع رغباته بغير عنت.
نعم، لقد أشبعت الفلسفة المادية شطر الإنسان المادي وأفقرت شطره الإنساني وأقفرت روحه، وهذا ما انتقده فلاسفتها المتنورون الموضوعيون، ومنهم: ألكسيس كاريل صاحب كتاب (الإنسان ذلك المجهول) والذي قال فيه:إن الحضارة العصرية لا تلائم الإنسان كإنسان…وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة…إننا قوم تعساء لأننا نتخبط أخلاقيا وعقليا…
الفلاح في المرجعية الإسلامية:
تنبني المرجعية الإسلامية على عدة أصول، أصلان منها رئيسيان: القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة الصحيحة، والباقي اجتهاد يتأسس عليهما ولا يتعارض معهما، ويحصل إما بقياس عقلي أو استحسان شرعي أو مصلحة مرسلة أو سد للذريعة أو عرف أو استصحاب.
والفلاح في هذه المرجعية الربانية مفهوم مركزي يستوعب مساحة كبيرة في أصل أصولها، فما من سورة مكية كانت أو مدنية إلا وحفلت بقصص قرآني يظهر بعض الفالحين الذين ربحت تجارتهم مع الله فسعدوا في الدنيا ونالوا الدرجات العلى في الآخرة، في مقابل بعض الخاسرين الذين خسروا أنفسهم في العاجل والآجل، كما أبرزت الشروط الموضوعية والسنن الربانية الموجبة له والآثار الإيجابية التي يخلفها على الفرد والجماعة.
ولعل ما يبرز أيضا مركزيته عدد الآيات المتضمنة لأي مشتق من مشتقات مادته، حيث بلغ -استنادا على ما استقرأه الأستاذ فؤاد عبد الباقي في كتابه الفريد المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم- أربعين آية، ناهيك عن الآيات التي ورد بها مرادفا من مرادفاته أو تعبيرا يحمل معناه.
ومن بين تلك الآيات التي تطرقت للموضوع مركزة على الشروط والثمار، نذكر على سبيل المثال لا الحصر الآيتين التاليتين:
قال تعالى: {قد أفلح المومنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}(المومنون، الآيات: 1- 11)، فهذه الآيات لما نزلت رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه مستقبلا القبلة وقال : >اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا توثر علينا وارض عنا وارضنا، ثم قال: لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة<(مختصر تفسير ابن كثير،3/558)، مما يؤكد عظم هذه الآيات العشر المبينة للمعالم الكبرى لمنهج الفلاح بإيجاز بليغ.
وقال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}(سورة العصر)، فقد كان الرجلان من أصحاب النبي إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى الآخر ثم يسلم أحدهما على الآخر، تحفيزا له على الأخذ بالأسباب السالكة به إلى الفلاح المحقق.
شـــروط الـــفــلاح
من أهم شروط الفلاح حسب ما جاء في الآيتين السالفتي الذكر:
>الإيمان الصادق: فالاعتقاد القلبي الجازم -الذي لا يخالطه شك ولا يصاحبه ريب- المبني على العلم اليقيني والدليل القاطع بالله تعالى رب الأرباب، خالق الخلق و مدبر الأمر، وبكل ما يتصف به من صفات الجلال والجمال والكمال، يشعر الإنسان بالطمأنينة والسعادة الداخلية ويكسبه الصحة النفسية، كيف لا وهو على يقين بأن رزقه ومستقبله وآجله ومصيره من تقدير عليم حكيم ولا دخل لأي إنسان أو جان مهما كانت قوته وسلطته في تحديده أو التأثير فيه.
وما يرسخ هذه السعادة ويزكيها إيمان العبد بالمعاد وبمحطاته ويقينه بأن ما فاته في عاجله من منافع وملذات ورغبات حسية ومعنوية سيحصل عليه أضعافاً ممحضة خالصة من أي تنغيص في دار الخلد إن كان مِؤمنا حقا سالكا للمنهج الرباني بشغف وحب.
فمتى أيقن بذلك زال عنه كل اضطراب أو قلق أو انزعاج وسارع إلى فعل ما يزيد في تعميقه ببذل كل غال ونفيس، ومن عرف ما قصد هان عليه ما وجد.
فمن المؤكد أن الروح التي تمثل جوهر الإنسان لا يسعدها لا كثرة المال ولا عظم المنصب و علو الجاه ولا كثرة الخدم والأصحاب ولا تعدد وسائل الترفيه، فهذه كلها أمور مساعدة، وإنما يسعدها فقط الإيمان الحقيقي بخالقها وتمتين الصلة به عن طريق الاستمساك بكلامه الحق والذي وصف بدوره بأنه روح للإشارة إلى أن روحنا لا تحيى ولا تسعد إلا إذا سرت فيها روح القرآن وتشبعت من غيثه الدفاق، قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء}(الشورى : 52).
> العمل الصالح: وهو كل قول أو فعل فيه خير ومصلحة للفرد والجماعة سواء في الدنيا أو الآخرة، وله الأثر الإيجابي في توطيد علاقة الفرد بربه وبنفسه وبالآخر والكون ليكون متناغما ومسايرا للركب المسبح للباري عز وجل.
وقد جاء العمل الصالح مجملا في سورة”العصر” ثم فصلت سورة”المومنون” بعضه، ومما جاء فيها:
> إقامة الصلاة: بآداء المفروض والمسنون منها بشروطها وأركانها مع الحفاظ على خشوعها وأوقاتها قصد توثيق الصلة بالله وتكبيره في النفس على الأغيار، وإصلاح القلب الذي عليه مدار أي إصلاح، قال : >ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله<.
> إيتاء الزكاة: لتطهير القلب من طغيان شهوة حب المال عليه ولإصلاح علاقة أفراد المجتمع فيما بينهم، فقيرهم وغنيهم، ونزع فتيل أي صراع طبقي واستبدال فلسفة الصراع بفلسفة الأخوة والتكافل والتضامن، لذلك لم يشرع الإسلام للغني في هذا النطاق إلا إخراج نسبة مقدور عليها من ماله لا تخلف لديه إحراجا نفسيا ولا عسرا ماديا ترد على الفقراء لإصلاح حياتهم، حتى إذا تم ذلك تم الفلاح الاجتماعي المنوط بتماسك أفراده وتوحد مشاعرهم ورغباتهم في اتجاه تنمية المجتمع في كل المجالات.
> حفظ الفروج: لقد حذر الإسلام من فاحشة الزنى وسد الذرائع والطرق المفضية إليها ونهى عن فعل مقدماتها كالخلوة بالأجنبية والنظر الحرام والمخادنة…قال تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا}(الإسراء : 32) لمنع نفوذ عوامل الانهيار الحضاري من فسق ومجون إلى السلوك الاجتماعي، قال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}(الإسراء : 16)، و ليسلم المجتمع من آثاره المدمرة ومنها بالخصوص اختلاط الأنساب والتناحر في سبيل الظفر بنزوة عابرة، وليسلم أفراده من غلبة الشهوة على تفكيرهم ومن الإصابة بالأمراض الفتاكة، قال : >..لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا<(مسلم، كتاب الزهد والرقائق).
> أداء الأمانات: فكل مسؤولية يتحملها الإنسان دينية كانت أو دنيوية مطالب بأدائها حق الأداء وبذل ما في الوسع للوفاء بها، وأي تقصير فيها مؤذن بخرابها وخراب ما ينبني عليها، قال النبي : >إذا وسدت الأمور إلى غير أهلها فانتظر الساعة<. وباب الأمانات متسع جدا يشمل كل الوظائف التي يتقلدها المكلف والأدوار التي كلف بها من طرف خالقه أو الآخرين وحتى التي نذر نفسه للقيام بها.
فلو أدى كل أمانته ووفى بمسؤوليته لفاض الخير على الناس ولعاشوا في بحبوحة ورغد ولأفلحوا في تحقيق نهضة شاملة تعمهم وتعم خلفهم.
غير أن ما تجدر الإشارة إليه أن الإنسان لا ينال التوفيق في أداء ما أمر به وندب إليه من أعمال صالحة حتي يتسامى بنفسه وتفكيره واهتمامه عن سفاسف الأمور وينشغل بمعاليها وما يفيده ويفيد غيره، قال تعالى: {والذين هم عن اللغو معرضون}.
ثمرات الفلاح:
من أهم ثماره اليانعة:
> السعادة النفسية: والتي لا يسد مسدها لا مال ولا جاه ولا منصب، وإنما تحصل فقط باتصال القلب بخالقه وتطهيره من دنسه وصقله مما ران به من أرجاس حتى يظهر صفاؤه ويبرز نوره وتشع منه فيوضات الرحمن.
> صلاح المجتمع وتنميته: بتنمية أفراده أخلاقيا وتقويم سلوكاتهم وتنشئتهم على القيم الاجتماعية المساعدة على بناء المجتمع المتضامن الذي يرعى فيه الغني الفقير والقوي الضعيف والعالم الجاهل، وتحفيزهم على أداء الأعمال الصالحة الكفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
>الفوز في الدار الآخرة بالفردوس الأعلى: قال تعالى: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} وقال الرسول مبينا حقيقتها: >إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمان<(تفسير القرآن العظيم 4/871)، فأي فلاح أكبر من أن يتنعم الإنسان بنعم الجنة وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والأكثر من ذلك أن يتنعم بالنظر إلى وجه الله تعالى، مصداقا لقوله عز وجل: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}(سورة : 23).