تابع العالم أجمع المحرقة الرهيبة التي أنجزها الكيان الصهيوني الغاصب ببرودة دم على الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة طيلة 22 يوما من 27 نونبر 2008 إلى 17 يناير 2009 وقد استعمل فيها أعتى الأسلحة وأكثرها فتكا وخطورة ودماراّ، ولم يتوان في استعمال الأسلحة المحرمة دوليا(الفسفور الأبيض).
وارتكاب جرائم إنسانية خطيرة للغاية ، ثم جاء قرار وقف إطلاق النار من جانب واحد هو الجانب الإسرائيلي لتنطلق مرحلة جديدة من فصول القضية الفلسطينية عبر مسارات معقدة من المفاوضات في ظل تغيرات محلية وإقليمية ودولية. فما هو واقع القضية الفلسطينية؟ وما هي احتمالات المستقبل؟
واقع القضية الفلسطينية
بعد توقف الحرب الشرسة انطلقت المفاوضات المكثفة لمعالجة الخلافات بين المقاومة والكيان الصهيوني من جهة. وهي مفاوضات كانت قائمة حتى لحظة الحرب بوساطة مصرية وغيرها من الوساطات . ويلاحظ في هذا السياق ما يلي :
أولا : على مستوى الكيان الصهيوني: رغم إعلان هذا الكيان أنه حقق أهدافه من الحرب ، فإن واقع الحال من خلال المفاوضات لا يدل على ذلك :
ـ إن الكيان الصهيوني لم يستطع القضاء على حماس نهائيا ، ولم يستطع إدخال قوات السلطة الفلسطينية أو قوات دولية إلى غزة لتعويض حماس . ولم يستطع الكيان الصهيوني فرض شروطه -رغم الضغوط والوساطات- على المقاومة بالالتزام بالهدنة المستمرة، ولا انتزاع الاعتراف به.
كما لم يتمكن من تحرير الجندي الصهيوني جلعاد شاليط بل بدأ يظهر انقسام الصف الإسرائيلي من مسألة الحق الفلسطيني في الأرض والأمن ، إذ بدأت ترتفع أصوات داخل الكيان بالتنديد بالحرب على غزة وبضرورة الاعتراف بحماس ومفاوضتها مباشرة .
ثانيا: على المستوى الفلسطيني : ترتب عن أحادث غزة ومحرقتها تمايز في الصف الفلسطيني، وهوة عميقة بين تيار السلطة الفلسطينية وتيار المقاومة وفصائلها ، إذ كان ضعف السلطة وجبنها في الانضمام لصف المقاومة ومداهنتها للموقف الصهيوني والدولي الممالئ سببا كافيا في عزلها عن صف المقاومة وظهرت المقاومة في هذه اللحظة طرفا قويا متماسكا، قادرا على إدارة المعركة العسكرية والدبلوماسية بوعي دقيق وفق مبادئ ثابتة ونهج تكتيكي محسوب تمكنت من خلاله من فرض خيارات جديدة على جميع الأطراف. ولذلك بات المشهد يشير إلى :
> تقلص شعبية السلطة الفلسطينية واهتزاز ما تبقى من سمعتها في غزة وكذا في الضفة لولا القمع والمتابعات والحل الأمني والمخابراتي ، وفي المخيمات ، وهذا الواقع أصبح يؤرق أصحاب القرار داخل السلطة وفصائلها وداخل الكيان الصهيوني والشارع العربي أيضا.
> انتهاء ولاية محمود عباس في 11يناير 2009 وفي أوج الحرب الشرسة زاد من إضعاف شرعيته وفتح الباب لتجاوزه وتجاوز سلطته لولا التأييد الصهيوني والمباركة الأمريكية!!
> بالنسبة لحماس ومعها حركات المقاومة وفصائلها فقد خرجت من هذه الحرب مرفوعة الرأس رصيدها ورأسمالها هو الإيمان بالحق الفلسطيني والتشبث به وعدم التفريط فيه مهما كانت الضغوط ،هذا الحق المتمثل في الحق في الأرض المغتصبة والحق في السيادة عليها والاستقلال بالقرار والخروج من وصاية الكيان وحلفائه، وبهذا تمكنت المقاومة من فرض ذاتها وفرض شروطها المشروعة على الكيان الصهيوني وعززت موقفها في المفاوضات ولذلك يمكن اعتبار أهم نتيجة حصلت عليها حماس هي : فرض نفسها على الكيان الإسرائيلي والقوى الدولية، واكتسبت أيضا احترام قوى المقاومة الفلسطينية والقوى الحية في العالم العربي الإسلامي، كما اكتسبت تقدير الضمير الإنساني الحي.
أثبت خيار المقاومة منذ سنتين أن العدو الصهيوني الذي يؤمن بالقوة ويتسلح بها لا يمكن قهره إلا بنفس القوة، وأن الخيار الديبلوماسي مسلك صهيوني للخداع وابتلاع الحق الفلسطيني في الأرض ببطء خصوصا في حالة عدم تكافؤ القوى.
ثالثا : على المستوى العربي والإسلامي : مما ترتب عن أحداث غزة في هذا المستوى مجموعة نتائج يمكن إبرازها كما يلي :
أولا : إحياء القضية الفلسطينية في الضمير العربي والإسلامي شعبيا ورسميا، تبين ذلك من خلال المظاهرات الاحتجاجية التي شهدها العالم العربي والإسلامي، وتحركات مختلف مكوناته السياسية والحقوقية والاجتماعية في رفض الحرب على غزة، وفي التنديد بجرائم الكيان الصهيوني، وفي الإيمان بحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه وفي امتلاك جميع عناصر القوة القمينة بتوفير الحماية له من الاعتداءات الصهيونية وفي ضمان حقه في إنشاء دولة قوية ذات سيادة واستقلال.
ثانيا : تمكن المقاومة الإسلامية في غزة من الإقناع بنموذجها السياسي والتحرري في الأوساط العربية والإسلامية، وأصبحت هذه الأوساط تتزحزح تدريجيا للاعتراف بحماس (مؤتمر الدوحة مثلا، الوساطة المصرية في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وفصائل المقاومة والموقف التركي والسوري والإيراني..) مما يشي بتطور نوعي بدأ يتشكل في المحيط الإقليمي لحركة المقاومة وبإمكان حدوث تغييرات سياسية مستقبلية في التعامل مع الحركات الإسلامية.
ثالثا : انقسام الصف العربي وضعفه في الاستجابة لتحديات الحرب، واتخاذ مواقف في مستوى الحدث، رغم ما يظهر من سلبياته الظرفية في الخذلان والعجز إلا أن فيه إعلانا بإفلاس كثير من الأنظمة العربية ونخبها السياسية والفكرية المستوردة والمصنوعة أحيانا تحت أغلفة الديموقراطية والحداثة، كما سقطت كثير من الأقنعة المزيفة وظهرت الحاجة ماسة لترميم البيت العربي والإسلامي على أسس من العودة إلى الذات ومقوماتها الإسلامية والوحدة والتكامل والتنسيق الفعلي بما يحفظ للأمة المسلمة مقدساتها ومقدراتها.
4- على المستوى الدولي يمكن أن نلاحظ ما يلي :
أولا : تناقض الموقف الدولي في الانحياز لإسرائيل وتسليحها وفي منع المقاومة من التسلح والدفاع عن النفس.
ثانيا : لم يعدم العالم ضميره الحي، فقد أحيت الحرب الضمير الإنساني واسترجع كثير من أحرار العالم وعيهم بخطورة الفكر الصهيوني، وإجراميته. فانطلقت مظاهرات في مختلف البلدان العالمية للتنديد بهذه المجازر وتجريم قادة الحرب الإسرائيليين ومقاضاتهم أمام المحاكم الدولية، وهذه نقلة نوعية وجديرة بالاعتبار، وفيها تحفيز لأبناء الأمة بالاعتزاز بقضيتهم وحقهم الوطني والديني والثقافي والحضاري.
آفاق القضية الفـلسطينية بعد هذه الأحداث
بعد فشل الكيان الصهيوني المزعوم انفتحت أمام القضية الفلسطينية آفاق واسعة من جملتها :
1- تراجع الكيان الصهيوني عن سقف أهدافه، واصطدامه بجدار المقاومة الصلب سيفرض عليه مراجعة حساباته، والرضوخ للأمر الواقع، وإن كان الأمر لا يزال يحتاج إلى كر وفر، ومد وجزر.
2- توسع شعبية المقاومة في الأوساط الفلسطينية والعربية والإسلامية شعبيا ورسميا سيعزز الموقف الفلسطيني والعربي والإسلامي، وسيغير من خريطة التوازنات المحلية والإقليمية وسيفرض على المواقف الفلسطينية، والعربية الانخراط في مسلسل المقاومة ودعم حق الشعب الفلسطيني من منطلق القوة، والالتحام والوحدة، والوعي بالمصير المشترك.
3- استثمار التغيرات الدولية في السياسة العالمية لصالح القضايا العربية والإسلامية من قبيل :
> تراجع الهيمنة الأمريكية بسبب الهزائم المستمرة في العراق وأفغانستان وتشويه سمعتها في العالم.
> انشغال المعسكر الغربي الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة وبريطانيا بالأزمة المالية، هذه الأزمة التي ستؤثر على ميزانية الإنفاق العسكري، وعلى الأوضاع الداخلية، مما سيجبر هذه الدول على العناية بأوضاعها وسيحوجها إلى الدعم العربي والإسلامي للخروج من كثير من المآزق في المنطقة أو التقليل منها أو إرجائها إلى المستقبل.
> استثمار الجانب الإعلامي وتقنياته (الفضائيات/الأنترنيت) في التعريف بالقضايا الإسلامية وحقوق الأمة المسلمة والأقليات المسلمة في الاستقلال والكرامة والتنمية بغير وصاية، وامتلاك أساليب القوة العسكرية والاقتصادية من غير التدخل الدولي. إذ أصبح الإعلام قوة عالية في الإقناع والتأثير، وظهر ذلك جليا في تغطية أحداث غزة من قبل الإعلاميين (قناة الجزيرة مثلا) إذ مكنت هذه التقنية الإعلامية من تصحيح صورة الفلسطينين والمسلمين في الغرب الذي ظل تحت رحمة الاحتكار الإعلامي لجهات معينة.
وأخيراً : إن مرحلة ما بعد أحداث غزة وإن كانت لم تتضح معالمها بشكل واضح إلى الآن إلا أنها تبشر بتغير موازين القوى سياسيا وإعلاميا وميدانيا، محليا وإقليميا ودوليا، وتغير مواقع اللاعبين في المعترك السياسي سواء دخل الكيان الصهيوني أو الفلسطيني أو المحيط الإقليمي والدولي، وإن هذا التغير سيكون في صالح المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بشكل خاص والأمة الإسلامية بشكل عام، لكن يجب تكثيف الجهود والوعي بدقة المرحلة وخطورتها وأنها ليست النصر النهائي وإنما هي بشائر النصر الموعود وطلائع التغير القادم، وأول ما يجب الاهتمام به هو، رص وحدة الصف العربي الإسلامي بجميع مكوناته وتلوييناته والإيمان بأن القضايا الوطنية والعربية والإسلامية فوق كل المصالح الذاتية والحزبية والطائفية، والحذر من الوقوع في مزالق الا بتزاز و المساومة، أو استعجال النصر والظفر بالمناصب والغنائم، فالمرحلة لا تزال دقيقة و تحتاج إلى حس وطني وقومي ودولي لا ينبغي التفريط فيه في أية لحظة.