اللقطة الأولى شعبية بسيطة :
في مدرسة خاصة، وبمناسبة رأس السنة الميلادية، تطلب معلمة من تلاميذها إحضار بعض ما يمكن من الاحتفال بهذه المناسبة، فيصيح مجموع التلاميذ بحناجرهم البريئة، وبصوت واحد : >غزة. غزة يا أستاذة، أنحتفل وإخواننا يقتلون؟؟< ويصيح بعد ذلك صوت تلميذة : >ألا يكفي أن نحتفل برأس السنة الهجرية؟؟<.
اللقطة الثانية رسمية ومعقدة :
في بلد من فلسطين يُسمى غزة، يقصف سرب من أحدث الطائرات المقاتلة مناطق أهلية آهلة بالسكان، وتلقي مائة طن من المتفجرات منذ الوهلة الأولى، ويسقط المآت من الأبرياء بين شهيد وجريح. ثم تأتي الغارات بعد الغارات، ثم الهجوم البري ليخلف الآلاف من الضحايا ومشاهد مروعة من الدمار.. والكل يعرف بشاعة ووحشية ما يحدث.
تحركت الجماهير العربية والاسلامية بعفوية منددين بما يحدث من إبادة وتدمير، وانتظرت هذه الجماهير من كبار الأمة التحرك لوقف العدوان دون جدوى، لوّحُوا بانعقاد قمة طارئة وعبّروا بعبارات جد مؤدبة “منددين” بالعدوان، حتى كان بعض المتحمسين يستكثرون مرور أربعة أيام على العدوان لانعقاد القمة. لكن مرت الأربعة أيام الأولى والثانية والثالثة دون أي نتيجة… لم يقع الاتفاق على عقد القمة، لأن الكبراء الذين صافحوا الأعداء وتبادلوا معهم الهدايا والقبلات أبوا ذلك، وعزّزوه بمواقف وصَفَها العديد من المحللين والمتتبعين بالتواطؤ المكشوف والمشاركة العملية في إسكات صوت المقاومة. وبقي بعض الصغار ينددون ويحتجون ويدعون إلى قمة طارئة لاتخاذ موقف حازم ولإسماع صوت الأمة، لكن لا حياة لمن تُنادِي، وكانت النتيجة الديبلوماسية أن أُبْعِد ممثل هذه الدولة الصغيرة عن اجتماعات كبار العالم حتى لا يشوش على قراراتهم من أجل تصفية القضية برُمتها فحَلَبة الكِبار لا ينبغي أن يلْعَب فيها الصّغار.
ونبقى مع صغار الأمة، من براعمها وشبابها بل وحتى مع كهولها وشيوخها الذين يُعتبرون صغاراً في عيون الساسة الكبار، هؤلاء الصغار الذين أوقد فيهم العدوان شموع العزة وروح المقاومة، هؤلاء الصغار -بجميع شرائحهم الاجتماعية- الذين ذكّروا الكبار بأن مستقبل الأمة واحد وأن مرحلة الذل والعبودية قد ولت، هؤلاء الصغار الذين احترقت قلوبهم باحتراق أجساد أهل غزة، وبكوا لبكاء أهل غزة، وخرجوا في مسيرات تضامنا مع أهل غزة، ونددوا حسب ما يستطيعون بما يحدث في غزة، هؤلاء الصغار الذين تحركوا في مختلف دول العالم هم أمل الأمة، بل هم أمل الإنساية جمعاء، هم الأمل في قهر العدوان واسترداد الأرض المغتصبة، هم الأمل في إرغام الكبراء للاستجابة للمطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، ولكل شعب من الشعوب المقهورة المغلوبة على نفسها، هم الأمل في فضح النفاق والتآمر على مستقبل هذه الأمة.
إن تحرك هؤلاء الصغار هذه المرة وبهذا الشكل احتجاجا على العدوان الصهيوني الهمجي على غزة ينبئ أن هذا العدوان هو أول مسمار يدقه الصهاينة في نعوشهم، وهو الشرارة الأولى التي أوقدت الشعلة التي سيحملها الصغار، نحو مستقبل مشرق وغد مفعم بالحرية والسلام الحقيقي.
إن إنكار التلاميذ على معلمتهم الاحتفال برأس السنة تضامنا مع أهل غزة دليل حي على أن عهداً جديداً قد بدأ. إنه عهد إرادة الشعوب بعد أن أبان الكبار عن تواطئهم على الظلم واتفاقهم على الباطل، ببياناتهم وقراراتهم التي استصدروها مما سموه بمجلس الأمن، وأي أمن يريدون؟ وهم يبيدون شعبا بل وشعوبا لاحَول لهم ولا قوة.
إن أبرز درس يمكن أن يستخلص من هذه الأحداث الأخيرة -ولن تكون الآخرة- هو أن مستقبل الأمة آت بقَوْمة شعوبها، وعلى الأنظمة أن تتصالح مع شعوبها وأن تنحاز إليها وأن تعتذر إليها عما بدر منها لأن زمن المنطق الفرعوني {لا أريكم إلا ما أرى} قد ولى بغير رجعة.
رحـــم الله شهداء غزة، وجعلهم مــــع النبيئين والصديقين، ونصر جنودها البـــــواسل الذين يقــــاتلون نيــابة عــن الأمة، وخلّد ذكرهم في الصالحات، وليعلموا أن هذه هي سنة الأنبياء والمؤمنين وأن نصر الله آت لا محالة {ألم أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}(العنكبوت : 1) {لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المومنون بنصر الله}(الروم : 4) {ألا إن نصر الله قريب}(البقرة : 212).