إن الحديث عن سلوك القوة والعنف في الفكر الغربي حديث تمليه الملاحظات الواقعية وتثبته الشواهد التاريخية وتئن منه جميع جنبات الكرة الأرضية، وتنطق به جميع منتجات الإنسان الغربي المادية والمعنوية العلمية والأدبية. بيد أن هذا الفكر ظل طيلة تاريخه القديم والمعاصر يتهم الغير بممارسة العنف والقوة ويتخذ من ذلك ذريعة للاستقواء والهيمنة والسيطرة والاعتداء تحت شعارات ومسميات براقة، فما هي جذور القوة والعنف في الفكر الغربي؟ وما هي أسباب ذلك وعوامله؟ وما هي بعض المرتكزات التي أسهمت في توليد عنصر القوة والعنف وتقويته؟ وما هي آثار ذلك على واقع العلاقات الدولية المعاصرة ومستقبلها ؟
أولا : فــي جذور الظاهرة
يمكن إرجاع ظاهرة العنف واستخدام القوة في الفكر والثقافة الغربيين إلى مجموعة من الجذور منها ما هو تاريخي ومنها ما هو ديني وثقافي ومنها ما هو عرقي.
فما هو تاريخي يرجع بالأساس إلى ذلك الإرث التاريخي للغرب في علاقته بالشعوب والأمم الأخرى ابتداء من عصر اليونان والرومان مرورا بالإمبراطوريتين البيزنطية والروسية المسيحيتين وصولا إلى الحملات الصليبية على العالم الإسلامي التي توجت بطرد المسلمين من الأندلس وإقامة محاكم التفتيش والتطهير العرقي والديني والانطلاق في غزو العالم على نفس الخطة من التطهير والإبادة والتصفية العرقية للشعوب غير الأوروبية واستعبادها في إفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية والجنوبية، وقد قادت الدول الأوروبية هذه الحركات الاستعمارية تباعا ابتداء من الإسبان والبرتغال فالإنجليز والفرنسيين والألمان والإيطاليين ثم الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه فالولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن.
وقد ظل هذا الإرث التاريخي الطويل يغذي الحس الغربي في السيطرة على العالم والحفاظ على هذه المكتسبات والأمجاد! خاصة عندما يجد من يحييه ويوقظه داخل المجتمع من مؤسسات دينية وتعليمية وإعلامية وفكرية.يضاف إلى هذا التعصب الديني للمسيحية وإقصاء الأديان الأخرى وإبادة أهلها أو تنصيرهم قسرا كما حصل مع شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والشمالية.
أما ما هو عرقي فيرجع إلى انتشار التعصب للعرق الأوروبي الأبيض على حساب بقية الأجناس الأخرى السمر والحمر والصفر والسود، وقد طفا هذا التعصب العنصري في مختلف الحقب والمراحل التاريخية ولم يخل التاريخ الأوروبي من دعاة للعنصرية والتحيز للمركزية الغربية، والتعصب لمقولات تفوق الجنس الغربي.
وفي المجال الفكري ظهرت في الغرب كثير من الفلسفات تدعو إلى تمجيد القوة والعظمة والإنسان الأقوى والبقاء للأقوى خاصة مع داروين (الداروينية الاجتماعية) ونيتشه(الإنسان الأقوى) ونظريات فلسفية تعطي الأولوية للمنفعة والمصلحة على الأخلاق والقيم (الفلسفة النفعية)= (البراغماتية)، كما ظهرت في الغرب طروحات فكرية ترمي الشرق بالتخلف(رينان مثلا) وأخرى تدعو إلى تمجيد الحضارة الغربية (أطروحة فوكو ياما عن نهاية التاريخ نموذجا) وأخرى تحذر من صدام الحضارات (أطروحة صموئيل هنتنكتون) وتستعدي الغرب على الإسلام والبلدان الناهضة الحاملة لمشاريع حضارية مغايرة للمشروع الغربي.كما بارك كثير من الفلاسفة الغربيين الحملات الاستعمارية وعمليات الإبادة كما هو في موقف كارل ماركس من الاستعمار الفرنسي في الجزائر. ويذكر ماك فرو في مقدمته لكتاب “الاستعمار : الكتاب الأسود” أن الكتب المدرسية في فرنسا لم تسلم من تعبئة الأطفال على كراهية الشعوب المستعمَرة إذ يقول “لقد كانت الكتب المدرسية في فرنسا تسرد بابتهاج كيف كان بوجو وسانت أرنو يحرقان القرى خلال احتلال الجزائر، وكيف كان الضباط الانجليز إبان ثورة1857 يضعون الهندوس والمسلمين على أفواه المدافع” (“الاستعمار : الكتاب الأسود” مجموعة من المؤلفين،ص150)
وفي ظل هذه المعطيات لم يعد بإمكان الغرب أن ينظر للبلدان الأخرى إلا من خلال نظرة الاستعلاء والهيمنة والإحساس بالتفوق والكبرياء الأمر الذي يعرقل أغلب الجهود المبذولة للحوار الحضاري ولتحالف الحضارات والثقافات التي ترتفع الأصوات المنادية بها، وكيف تطالب الشعوب الضعيفة بتغيير نظرتها العدائية نحو الغرب وتغيير مناهجها التربوية والتعليمية والإعلامية والدينية في وقت يصدق فيه الأمر على الغرب بالأولى والأحرى!!
ثانيا : فــي مـرتكزاتها
إن ظاهرة التفوق الغربي التي منحته إمكانات القوة وفتحت له أبواب السيطرة والهيمنة وسوغت له ممارسة العنف بدون حسيب ولا رقيب ليست قدرا إلهيا ولا حتمية إنسانية، وإنما جاءت بناء على جهد بشري وتخطيط إنساني وعمل اجتماعي وسياسي متواصل ودؤوب عبر أجيال وقرون ويمكن رصد بعض المرتكزات التي قامت عليها المدنية الأوروبية في ما يلي :
> أ- المرتكز العلمي:
في مجالي الطبيعة والإنسانيات منذ عصر النهضة أطلق المفكرون الأوروبيون شعار السيطرة على الطبيعة من خلال الاهتمام بالعلوم المادية من رياضيات وفيزياء وكيمياء وميكانيك وفلك وطب …وانطلقت الجامعات والمعاهد في سباق وتنافس للظفر بالسبق إلى الاختراعات الجديدة، وقد انتهى هذا الاهتمام العلمي بظهور الثورة الصناعية التي نقلت الإنسان الأوروبي من مشروع السيطرة على الطبيعة إلى التفكير في مشروع السيطرة على الإنسان والشعوب، وكانت هذه هي البداية الثانية للاستعمار بعد بدايته الأولى مع الإسبان والبرتغال في القرن الخامس عشر الميلادي. ومن الثورة الصناعية انتقلت أوروبا إلى مضاعفة جهودها في البحث العلمي في العلوم الطبيعية الدقيقة حتى وصلت إلى الثورة العلمية المعاصرة في مجال التكنولوجيا والمعلوميات . وكلما ازداد الغرب تقدما واكتشافا ازدادت الهوة بينه وبين الشعوب المستعمرة سابقا.
وقد حافظ الغرب على قوته العلمية وتفوقه بعدة أساليب منها منع انتشار الأسرار العلمية في العلوم التي مكنته من التفوق والهيمنة وسن قوانين دولية تمنع انتشارها وتعاقب من يسعى إلى امتلاكها مثل اتفاقية حظر انتشار القوى النووية.التي بموجبها غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق ولا تزال تهدد إيران وسوريا وكوريا … كما حافظ الغرب على قوته بتهجير الأدمغة العلمية النابغة في بلدان العالم الثالث وإغرائها أو إكراهها على العمل في الغرب وحرمان هذه البلدان من مواردها البشرية المؤهلة والخبيرة فظلت هذه البلدان فقيرة تابعة وضعيفة.
> ب-المرتكز الاقتصادي :
لم يكن امتلاك القوة في المجال الاقتصادي إلا نتيجة لامتلاك القوة العلمية . وقد ظلت المؤسسة العلمية والاقتصادية في الغرب متعاونتين ومتساندتين كل منهما يخدم الآخر ، وظلا معا يسيران في خط واحد. وقد مكن التدبير الاقتصادي الجيد من حيث الموارد الطبيعية والبشرية والمعدات الصناعية والتقنية اللازمة من تمكين المجتمعات الأوروبية من الحصول على القوة الاقتصادية المؤهلة للمنافسة والتحدي ، هذا إذا أضفنا عامل الموارد الطبيعية المستجلبة من المستعمرات واليد العاملة الرخيصة من قوافل العبيد والمضطهدين وعمليات النهب والسرقة للذهب والأموال التي كان الجنود الغزاة يقومون بها في البلدان المستعمرة. الأمر الذي كان يدفع بالاقتصاد الغربي إلى النمو جيلا بعد جيل وكان يدفعه أيضا ويزيد من الشراهة والشراسة للبحث عن المستعمرات ومصادر الثروة والتسويق فتزايدت الحاجة للاستعمار وللعولمة والهيمنة. لذلك يلاحظ أن قوة الاقتصاد الغربي نمت تحت القوة والعنف وتلازمت مع الحروب فكلما تطور الاقتصاد احتاج إلى شن الحروب وسن قوانين إخضاع الشعوب واستنزافها، وقد أودت الحروب الغربية في المستعمرات بما يفوق 100 مليون قتيل معظمهم من المسلمين و الزنوج والهنود!!! عدا ما خلفته من دمار وخراب وتجويع وتخلف واستلاب!!.
> ج- المرتكز التنظيمي في المجال الاجتماعي والتدبير السياسي :
وفي المجال الاجتماعي اكتسب الغرب قوة تنظيمية محكمة من خلال الاستناد إلى العلوم الإنسانية والتحكم في الحراك الاجتماعي من خلال مؤسسات سياسية (أحزاب، مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية) ومهنية( نقابات) ومدنية (جمعيات واتحادات..) وكلها تمارس حقوقها في التفكير والتعبير والتدبير وقد قام الغرب بتشجيع البحوث الإنسانية في المجالات النفسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية نظريا وتطبيقيا وأفرز ثروة معرفية ما لبثت أن أحدثت ثورة اجتماعية وتغيرات مهمة على المستوى الاجتماعي هذا إذا أضفنا توفير جو الحرية الفكرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان وتطبيقاتها في الحياة اليومية والتداول السلمي والسليم للسلطة السياسية .
غير أن هذه القوة ووسائلها عمل الغرب أيضا على احتكارها لنفسه وقصرها على الإنسان الأوروبي والأمريكي دون بقية الشعوب وظهر في الغرب التوظيف النفعي لهذه المبادئ في الترويج لها وتصديرها فأصبحت العلوم الإنسانية وسائل في تعزيز مقولات المركزية الغربية والتفوق الغربي والتمييز العنصري والاضطهاد والقمع وإجراء التجارب على المعتقلين والمقهورين من الأفراد والشعوب. كما تم تسويق الأفكار والنظريات النفسية والاجتماعية التي تدعو إلى الانحلال الخلقي وثقافة الجنس والمادة والاستهلاك الأمر الذي زاد في أزمات دول العالم الثالث وأبعد أبناءها عن جادة العلم والمعرفة القمينة بتأهيل المجتمعات نحو الريادة
> د- المرتكز العسكري:
نمت القوة العسكرية في الغرب جنبا إلى جنب مع نمو القدرات العلمية والاقتصادية بل لعل الدافع نحو امتلاك القوة العسكرية هو الذي دفع الغرب إلى التخطيط العلمي ورعاية المؤسسات العلمية والاقتصادية وجعلها تحت رقابة المؤسسة العسكرية والأمنية. وظلت أكبر المؤسسات العلمية وأدقها تحت توجيه المؤسسة العسكرية وتعتبر الأسرار العلمية الدقيقة من أسرار الدولة ولا يتم تفويتها للعموم إلا بعد استنفاذ أغراض المؤسسة العسكرية منها وبعد تجاوزها باختراعات جديدة في حين تظل كثير من الأسرار العلمية حكرا على الدولة لا يجوز تدريسها للقطاعات الشعبية كالأسرار النووية والتكنولوجية والبيولوجية والفلكية. وترصد ميزانيات ضخمة وهائلة للبحوث العلمية والتجارب العلمية ذات الصلة بالمجال العسكري والأمني. واستطاعت المؤسسة العسكرية في الغرب أن تسخر جميع ما يعزز قوتها ونفوذها. حتى أصبحت هذه المؤسسة رمزا للتفوق الغربي على بقية دول العالم وقد كانت هذه المؤسسة هي اليد اليمنى للغرب في غزو العالم واستعماره ونهب خيراته وقمع كل من يقف أمام الإرادة الغربية في الهيمنة والسطو ومارس العسكر كل أنواع التعذيب والتنكيل والاضطهاد والقتل والإبادة في حق الشعوب دون اعتبار للكرامة والحقوق الإنسانية إلا ما تمليه المصلحة الغربية. ولم تكن الجيوش الغربية في حروبها تتورع في استعمال أخطر الأسلحة وأكثرها فتكا ودمارا ولو كانت محرمة في المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية والشرائع الدينية.
ولقد كان استخدام الغرب لقوته العسكرية في كل حروبه مع دول العالم الثالث استعمالا مبالغا فيه بقصد الردع والزجر والإمعان في التخويف لزيادة التركيع والتبعية وتجنب إمكان ظهور قوى منافسة من شأن تطورها أن يزيح سيطرة الغرب الأحادية ويفتح الباب أمام تعددية في القوى الدولية التي من دون شك ستعجل بانتهاء هذه السيطرة المجحفة التي مل الناس منها وينتظرون الخلاص منها في أي وقت.
> هـ- المرتكز الإعلامي
تشكل القوة الإعلامية واحدة من أهم أنواع القوة، وقد أدركت الأمم الغربية منذ وقت مبكر أهمية الإعلام في الإقناع وتوجيه الرأي العام وصناعته والتأثير في مجرى الأحداث. و قد ارتبط توظيف الإعلام في الغرب بالحاجة إليه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتربويا كما ازدادت الحاجة إليه مع الحروب وتوظيف المعلومات في الحروب للتأثير على الخصم فيما عرف بالحرب النفسية. إذ أن انتقاء المعلومة المناسبة والتحكم في تدفق معلومات أخرى من شأنها أن تقلب الحسابات وتغير الموازين .
ومع تطور تقنيات الإعلام وارتباطه بالتطور التكنولوجي الذي يمتلكه الغرب نفسه أصبح الإعلام سلطة قاهرة وأصبحت الفجوة بين دول العالم الثالث والغرب فجوة عميقة إذ أصبح الغرب اليوم يتحكم في تصدير التقنية الإعلامية وتوزيع المعلومة بل ترتبط المؤسسة الإعلامية في كثير من الدول الغربية بوزارات الخارجية وبالمؤسسة العسكرية والمخابرات العسكرية وبمصالحها القومية والاستراتيجية داخليا وخارجيا.
ويمكن القول إن كثيرا من جوانب السيطرة الغربية اليوم تتوقف على القوة الإعلامية، وخاصة في الحروب التي يشنها الغرب اليوم في العراق وأفغانستان والفيتنام سابقا.أو في توجيه الرأي العام للاقتناع بكثير من التوجهات السياسية والفكرية والمواثيق القانونية والمشاريع الاقتصادية. وأصبح الإعلام يؤدي وظائف غاية في الدقة والخطورة.
وفي التركيب النهائي فإن أسس القوة التي يعتمد عليها الغرب أسس متكاملة في خدمة المصالح الاستراتيجية وقد ظل الغرب يحتكر هذه المصادر ويعزز الحراسة عليها وحمايتها من التسرب والانفلات من يده وظل مستعدا لخوض الحروب الخطيرة والمدمرة في حق كل الدول التي تسعى لامتلاك أسرار القوة لتحقيق التوازن الدولي وبسبب هذا الانفراد والاحتكار مارس الغرب في حق الشعوب الضعيفة مظالم ومجازر عبرت عن وحشية مقيتة وهيمنة طاغية أصبح العالم اليوم مطالبا بتجاوزها لتحقيق السلم والأمن والرفاه للإنسانية جمعاء. وإن ما نراه اليوم من صور العداء والكراهية تجاه الغرب ومصالحه الحيوية ليس إلا تعبيرا عن رفض الظلم والهمجية الغربية رأسمالية كانت أم اشتراكية. ولن نصل إلى حالة السلم العام إلا بعد أن يغيب استعمال القوة ويحل معها صوت الحق وأن تسن تشريعات ومواثيق دولية صارمة تعزز حقوق الجميع في امتلاك أسباب القوة وتكون مؤسساتها قادرة على معاقبة المنتهكين لهذه المواثيق أيا كانت قوتهم ومكانتهم الدولية.