ذ. أبو بدر
إن المساجد كُلّها -في المغرب وفي العالم الإسلامي- كانت تؤدِّي رسالتَها العلميةَ والتربوية والثقافية، حَيْثُ كانت الدُّروس في مختلفِ المواد تُدَرَّسُ فيها بتطوُّع -غالباً- واستقلاليّة تامّةٍ عن وزارة المالية، لأن كل مسجد لهُ من الوقْف ما يكفي جميع العاملين والقائمين بأمر المسجد، وجميع الملتزمين بقراءة الحزب، أو قراءة بعض كتب السّنة، أو قراءة بعض المتون، أو المدرسين والعلماء المدرسين فيه، إذا كانوا غير متطوعين.
كما كانت أغلبية المساجد توفِّرُ للطلبة الوافدين عليها السّكن والمأوى، وأحيانا كانت توفِّر التموين كُليا أو جزئيا، وبذلك كانت الشعوب المسلمة سواءٌ كانت متعلمة أو أميةً مثقفةً ثقافة إسلامية شرعية، تعرف مالَها وما عليها، وتعرف الحلال والحرام، وتعرف أخلاق الإسلام، وتغار على الإسلام، وتجاهد في سبيله كل متعدٍّ على الأوطان والأديان.
هذا في كُل المساجد التي أصبحت اليوم خرساء بكماء صماء، ونتج عن ذلك أميّةُ الشعوب المسلمة أميّة دينيّة فظيعةً، ولوْ كان بعض المتعلمين يحملون إجازات، أو دبلُومات، أو دكتوراة، فهُم صِفْرٌ في فَهْم الدين وحفظ أصوله وفروعه ومناهجه ومقاصده، وأداءِ واجباته الدّعوية و الدّفاعية، حيث هُمِّش الدين، وعُظِّمَتْ عُلُوم الدنيا المؤدّية إلى منصب أو وظيف يضمن دخْلاً قاراً لصاحبه، كأن الدنيا تنفصل عن الآخرة، أو كأن عِلْم الإسلام لا يحث على تعلُّم عُلُوم التسخير للكون واستثمار ما فيه من الخيرات والبركات.
ولا ينبغي أن نُنكر أن الدِّراسات في المساجد أصْبحَتْ في القرون الأخيرة جامدة لا تجديدَ فيها مضموناً وأسلوباً وتفكيراً وتبسيطاً، ومع الجمود ظهر التعصُّب الأعمى للمذاهب والأشخاص، كما انتشرت الدراسة الفقهية المنعزلة عن أصولها من القرآن أو السنة، وبذلك أصبح العِلْم الإسلامي يهتم بالشروح والحواشي، ويُهْمل روح القرآن وروح السنة، وروح الدّعوة، وروح التنظيم والتأليف والابتكار.
وبذلك سهّلتْ الشعوب على المستعمر مُهمّته الإحتلاليّة، والتعليمية، والإدارية والتنظيمية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، لأن العلْم الذي يدرس كان منعزلاً عن الواقع السياسي والاجتماعي والتدبيري -غالباً- فجاء الاستعمارُ وملأ الفراغ، واحتل العُقُول بعد احتلال الأوطان.
هذه -تقريباً- حالة دوْر دروس المساجد في العصور المتأخرة.
أما جامِعُ القرويين فقد كانت له رسالة أُخْرى أسْمى وأنبل وأعلى مما كا نت عليه المساجد بصفة عامة، حيث كا نت تُخْرِّجُ العلماء العاملين، والعلماء المجاهدين، والعلماء الذين يُشرفون على بقاء المجتمع ملتزماً بالشريعة، ملتزما بأخلاق الإسلام، ملتزماً بمبايعة الأمراء على تطبيق الإسلام، والحكم بما أنزل الله.
كما كانت تُخرِّج العلماء المبرزين في مختلف أنواع العلم الديني والشرعي، واللغوي، والحسابي، والآلي، والمقاصدي، والأدبي، والتاريخي إلى غير ذلك من مختلف أنواع العلوم. وبذلك صار علماء القرويين هم عُيونَ الشّعب وسمعه وبصره، ما أفتوْا به هو الذي يطبَّق، وما استنكروه لا يطبق ولو صدر من أعلى مصادر القرار، لأن كلمة العلماء أسمى من كلمة أصحاب القرار الذين لا علم لهم ولا التزام بقواعد الدين.
وقد صارت القرويين محط أنظار طلاب العلم من مختلف الشعوب المسلمة والأوربيّة، والإفريقية، كما صارت -في عصر الاستعمار- هدفاً للاستعمار، يعمل على إزالة وظيفتها وإزالة هيبتها، والعمل بتدرُّج على إزالة القرار الذي أعطاه الله تعالى للعماء، ووضع القرار في يد الشعوب التي لا تعرف الصالح من الطالح، ولا تعرف الضار من النافع، ولا تعرف التخطيطات الكيدية والتآمرية البعيدة المدى.
ورغم ما بذل من جُهْدٍ، وما أذاق العلماء من أذًى، ومضايقة، وسجن، وتعذيب، ونفي وغربة، فإنه لم يستطع القضاء على جامع القرويين، بل بقي شامخاً، وقلعة حصينة للعلم والجهاد.
إلا أن ما عجز عنه المستعْمِر المباشِرُ نجح فيه ربائب الاستعمار، ومُرتَضعُوا لبَنه من الذين تربّوا على يديه وعينه ليكونوا يَدَه التي يبطش بها، وعقله الذي يفكر به.
فجاء الاستقلال، وتشتت العلماء عن طريق الإغراء والتوظيف في ميادين غير مختصة بمهمة العالم، وعن طريق وضع كل العراقل لتجمُّعهم وتأسيس منطمتهم العلمية التي يوكَلُ إليها تدبير شؤون القرويين علْماً وعملاً، وتصحيحاً، وتخطيطا للاجتهادات التي تجعل الشعوب تتعايش وتحيا بالإسلام -مهما كانت وظيفة أفرادها.
وبذلك فرغت القرويين. وأصحبت تحيد عن مقاصدها، وتضعف وتضعف إلى أن تحولَتْ إلى مدرسة عادية لاتمت بصلة إلى مهمتها الأصلية التي من أجلها كانت، ومن أجلها أسِّسَتْ. فكانت خسارة المغرب في القرويين لا تعوض بثمن.
لأن المغرب عُرِف تاريخيا بالقرويين على أنها محطة إشعاع علمي وحضاري لجميع الشعوب المسلمة.
فكانت الخسارة تتمثل في :
1) انقطاع تخريج العلماء الفحول علماً وصلابة موقف.
2) جعل العلماء يأتمرون بأمر المتنفذين بدل العكس.
3) انقطاع حفظة القرآن الذين لم تكن القرويين تقبل غيرهم.
4) إزالة هيبة العلم وهيبة العلماء من نفوس عامة الشعب، بل أصبحوا هدفاً للسخرية بهم والاستهزاء بهم والحط من قدرهم.
5) ضعف العلم الشرعي واللغوي والأدبي الذي يقوم على أساس القرآن وبلاغة لغته المعجزة، حيث استعجمت الألْسُن وترطّنَتْ الأفكار والعقول.
6) إزالة السمعة العظيمة التي كانت للمغرب بسبب القرويين، فقد كان يقصدها في أوائل الاستقلال وفودٌ عظيمة من مختلف الدول الإفريقية، ولو استمرت على عطائها الفريد لكانت دُول افريقيا مملوءة بالأطر العليا المتخرجة من جامع القرويين، وفي ذلك ما فيه من فخر للمغرب وتأثير حضاري وعلمي في الشعوب التي كانت متخلفة بمسافات بعيدة عن المغرب المتشرف بالقرويين، هذا غيض من فيض. نسأل الله تعالى أن يقيض لها من يحييها ويحيي رسالتها.