إن الموعظة المرتبة والمركزة لها أثر كبير في تغيير الأحوال الفاسدة، وإصلاح الأعراف الخاطئة، وكبح النفوس الجامحة، وإحداث التغيير المنشود لإعادة مجد الإسلام والمسلمين.
إن الموعظة الناجحة تعمل عملها في نفوس الناس، فتجاهد فيهم حظ الشيطان، والضعف أمام العصيان.
ونجاح الوعظ والإرشاد يحتاج إلى مهارة الإلقاء، وبراعة التصوير، وقوة الفهم والعلم، وتقدير الأحوال والظروف، فإذا اجتمعت هذه العناصر الأساسية في الموعظة رأيت الحضور يتفاعل مع الموعظة ويتجاوب مع الواعظ، فتلاحظ القوم تقشعر جلودهم وتسيل عيونهم عند عرض أحوال اليوم الاخر وأهواله، ويتحمسون ويتحركون عند الكلام على البطولة والشجاعة والنجدة، وتتحرم مشاعهم وتتأثر عواطفهم عند بيان الحب في الله والتآخي لله، وتجود الأيد بالعطاء والسخاء عند ذكر أحوال السلف في الكرم والبذل والتضحية.
ولقد حضرت المشهد التالي :
أراد بعض الإخوة شراء مقر لجمعيتهم فاستشاروا أحد الفضلاء، فجمع لهم خيار الأغنياء في بيته فدار الكلام حول الجهاد بالمال والنفقة في سبيل الله، فلم يتفرق المجلس حتى جمع من المال ما يكفي لشراء بناية المقر بجميع تجهيزاتها.
وإليك أخي الواعظ بعض النماذج من الوعظ والإرشاد الذي كان له أثر كبير في حياة الناس.
وعظ الإمام أبو حنيفة ]، يوما، وقد حضره قوم غلاظ القلوب، وكانت عظته عملية موفقة.
أظهر للناس أنه مفكر في أمر خطير، فلما سألوه عن شأنه قال : إني أفكر في أمر قد أخبرت عنه : ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة بأنواع المتاجر، وليس بها أحد يحرسها، ولا يسوقها، وهي مع ذلك، تذهب وتحيء، وتسير بنفسها… وتخرق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتدخل المرافئ وتخرج منها، وتسير حيث شاءت، فلا تتجه إلا إلى ما هو مطلوب من غير أن يسوقها أحد فقالوا له : هذا شيء لا يصح أن تشغل به نفسك لأنه لا يقوله عاقل ولا يصدقه أحد. فقال : أيها الناس، إنكم أنتم الذين تقولون هذا الكلام، تقولونه بلسان الحال، إن لم يكن بلسان المقال.
فهذه سفينة الموجودات بما فيها من العوالم العلوية والسفلية وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة، فهلا تأملتم عجائبها وحكمة المصرف لها، أم أنها تغدو وتروح بغير مدبر يصرفها؟
فخشعت قلوب الناس لموعظته، وأسلم منهم من كان على غير الإسلام(1). وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى : حكي عن بعض سلاطين الإسلام، أنه كان يجتمع مع من يجالسه على كثير من اللهو والفسوق، وكان في المدينة، التي هو فيها، رجل صالح ينكر ما يبلغه من المنكرات، وإذا رأى إناء فيه خمر كسره فمر يوماً من تحت دار السلطان، فقال للسلطان بعض جلسائه : هذا فلان الذي إذا رأى إناء من الخمر بيد أحد من الناس كسره، وإذا رأي منكراً غيره، فأمر من يدخله إلى مجلسه، ثم قال : أنت تنكر على الضعفاء من الناس ما تراه من المنكرات، وتكسر ما تجده عدنهم من أواني الخمر، وهذا عندنا من الأواني ما تراه، فهل تستطيع أن تغير ذلك علينا؟
قال له : أنا ضعيف أنكر على مثلي من الضعفاء لقدرتي على ذلك، وأما أنت يا سلطان فكما قال الله عز وجل : {ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعاً صفصفا}(طه : 5).
—-
1- تذكرة الدعاة للبهي الخولي، ص 161.