في الحلقة الماضية تعرضت للحكم القرآني المطلق الذي يذكر الله سبحانه وتعالى فيه أصلا عظيما من أصول هذه الشريعة وهو جنوحها إلى الرفق والتخفيف على الناس مع حفظ مصالحهم وحفظ كل ما تقوم به حياتهم.
1- الشريعة الإسلامية لا تقصد إلى المشقة أبدا :
قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} آية تُبين أن الشريعة الإسلامية لا تجنح إلى المشقة ولا ترغب فيها ولا تقصدها ولا تتوخاها ولا تلتمسها ولا تطلبها كما تفعل بعض الملل، وبعض النحل الوضعية التي ترى أن من الإمعان في العبادة والتعمق في العبادة أن يشق الإنسان على نفسه.
فالمشقة في الشريعة ليست مقصودة أبدا، وإنما المقصود هو عبادة المؤمن لربه وسجوده وخضوعه لربه. فإن وجد منهجان وطريقان للعبادة وكلاهما -كما فصل ذلك بعض العلماء- يؤدي إلى الله عز وجل وهما من هذه الجهة متساويان لكن أحدهما فيه مشقة والآخر ليس فيه مشقة فلا مزية للطريق الذي فيه مشقة على الآخر.
أي الذي يحج بيت الله الحرام يمكنه أن يحج بوسائل متعددة بالطائرة أو السيارة أو بحرا أو يذهب سيرا على الأقدام أو يركب الإبل مثلا فهذه الطرق كلها تؤدي إلى الغاية التي هي الحج إلى بيت الله الحرام والوقوف بعرفة، هذا هو المراد، فليس للذي حج راجلا فضلٌ ومزيةٌ على الذي حج بالطائرة، فهما من هذا الباب متساويان، نعم إنما يتم للإنسان مزيدُ أجر للمشقة التي حصلت له، لأنه ربما حصلت له مشقة، لأنه لم يجد عنها محيصا ولا مفراً، فيؤجر على تلك المشقة التي عرضت له، ولكن المشقة في حد ذاتها ليست مطلوبة، وليست مقصودة لنيل المقصود والغرض والغاية.
ومثل علماء الأصول لهذا بمثال الطبيب أو الأب، لو فرضنا أن أبًا مرض ولده وذُكِر له أن لا شفاء من هذا المرض إلا أن يقطع من هذا الولد عضواً : يد مثلا، أو رِجْل، فهذه فيها مشقة، والوالد ليس فرِحًا ولا مسرورا لأن يد ولده سوف تقطع، وهو لا يطلب هذا الأمر ولا يقصده، ولكنه أمر أصبح ضروريا لعلاج الولد فَيُقبل الوالد على هذا الأمر ويتفق مع الطبيب على هذا الأمر ويسمح للطبيب بإجراء هذه العملية، لأن القصد عنده هو أن يشفى الولد، ولو وجد طريقةً أفضل منها لفعلها، ولكنه لم يجد إلا طريقة قطع العضو، فقُطع العضو لاحبًّا في القطع بالذات، وإنما صار ضروريا، وكان من مستلزمات العلاج.
إذن فالشريعة الإسلامية لا تقصد إلى التشديد وإلى التضييق على الناس أبداً، فإن وجد فيها شيء يسميه الناس شاقا عليهم فنقول لهم إنه أمرٌ ملابس للشريعة ولا مندوحة عنه، فقتْلُ القاتل، ورجْمُ الزاني المحصن، وقطع يد السارق أمور لا يجنح إليها الشرع لأنه يُحِبُّ هذا، ولا يُسَر به، ولكنه أمرٌ لابس هذه المصيبة بمعنى أن الذي يمنع القتل ويمنع السرقة هو أن نقطع يد السارق، وأن يقتل القاتل لإنسان ظلما، ولذلك فُعِل هذا كما بُتِرَتْ يَدُ المريض لا حبًّا في البتْر، لكن هذا هو طريق العلاج لا علاج غير هذا، ولو كان هناك علاج آخر يؤدي نفس النتيجة والغاية لشرَعَه ولفرَضه، ولو كان للسارق علاج ينفع فيه غيرُ قطع يده لألزمنا الشرع به، فلما لم يكن العلاج إلا القطع فليس لنا إلا أن نقطع يده، كما أن الطبيب يجنح إلى قطع المريض إذا لم يكن من ذلك بد. والقصد هو العلاج وأن تنتفي السرقة والقتل وهو أن يأمن الناس على أنفسهم، وعلى أموالهم وعلى حياتهم، فالمقصد الشرعي مقصدٌ نبيل وهو بالتأكيد ليس مقصد القوانين الوضعية، لأن هذه الأخيرة مشغولة بالسبب فقط دون المقصد، فهي دائما تسأل عن الوسيلة كيف يجب أن نحافظ على الإنسان وأن لا نقطع يده ولا ولا… لأن في القطع وحشية وفيه شدة! ولكن المقصد ما هو؟ المقصد هو إزالة الجريمة من المجتمع. هل أزيلت أم لم تزل؟
2- القوانين الوضعية بعيدة عن المقاصد الشرعية :
لنسأل الوضعيين : هل أزلتم الجريمة من المجتمع أم لا؟ يقولون مع الأسف لا.
الدليل أننا نضطر دائما إلى تأسيس سجون أخرى، فنقول إذن إنكم لا تنظرون إلى ما ينظر إليه الإسلام. نظركم ونظر الإسلام مختلف، نظر الإسلام هو في الغايات والمقاصد والمآلات ونظركم نظر جزئي بسيط في الأشياء بعد وقوعها، كيف نتعامل مع هذا السارق؟؟
الإسلام وضع حكم السارق قبل وقوع السرقة لغاية القضاء على السرقة من جذورها.
إذن المقصِد أصل حض عليه الشرع، وتأسست فيه أحكام، ولذلك مضت الشريعة على قاعدة : >أن المشقة تجلب التيسير< و>الأمر إذا ضاق اتسع<.
هذه من قواعد الفقهاء أي حيث ما وجدت المشقة وضاق الأمر على الإنسان حينئذ يأتي مباشرة حكم جديد هو حكم التيسير، فمن عجز عن الصلاة قائما حكمه الصلاة جالسا، فإن عجز عن الجلوس وضاق الأمر بالنسبة إليه فنأتيه بتيسير آخر أن يصلي متكئا، إذن كلُّ ضائقة تأتي إلا وتفرض من وراءها تيسيرا.
ولقاعدة >المشقة تجلب التيسير< شروطها منها : أن لا نذهب للتيسير مباشرة إلا إذا وقعنا في مشقة، فحينذاك نطلب اليسير. و>الأمر إذا ضاق اتسع< كلما ضاق الحكم يتسع بالرخص الشرعية.
على كل حال هذا جزء من رحمة الشريعة الإسلامية، وهذا معنى سماحة الشريعة الإسلامية التي أصبحنا الآن كلنا يتحدث عن سماحة الشريعة الإسلامية، ونحن لا نقصد إلا معنى آخر ليس مِنْ السماحة في شيء، وهذا اليسر، وهذا الانتقال من الشدة إلى التيسير والتسهيل لا يكون إلا بعد أن يُمْتَحن العبد بالحكم الأول طبعا.
3- لا عسر إلا بعده يسر :
ثم قال الله تعالى : {سيجعل بعد عسر يسرا} وبينتُ أن الصحيح في تفسير هذه الآية أن الله تعالى يَعِدُ بأنه سيجعل بعد عسر يسرا، أي بعد العسر المطلق يأتي اليسر. والعسر لا يمكنه أن يستمر ، نعم بعض المفسرين نظروا إلى أحوال بعض الناس وقالوا ربما وجد إنسان في حالة عسر واستمر معه العسر حتى مات، نقول إن الشريعة الإسلامية والأحكام ليست هي أحكام الأفراد إنها أحكام نظام جماعي، إنها تؤسس لمسيرة الأمة ككل، إنها تؤسس لتصرف الأمة ولحركتها الحضارية، فالأمة قد يُلم بها عسرٌ وينزل بها عسر فماذا يجب أن تفعل بحكم التوجيه الإسلامي يجب أن تواجه ذلك العسر. وأن تعيش ذلك العسر، وأن تكابد ذلك العسر ولكنها تعيشه وتكابده، بدون أن تيأس وتقنط أو أن تنهزم، فهي تعيش حالة العسر وفي تلك الحالة تؤمل اليسر، وتنتظر اليسر، وتنتظر الرجاء والفرج والرحمة التي تنزل من الله عز وجل، فالأمة الإسلامية على عمومها أمة لا تيأس، أمة تعيش بهذه الرحمة، وتتنفس بهذه الرحمة، وتتحرك بهذه الرحمة لذلك لا يمكنها أن تنهزم لأنها ترجو وتنتظر شيئا، وأمتنا الإسلامية كما قلت مرّت بمراحل من الأزمات، الأزمة الواحدة لو نُظِر إليها كافية لأن تجعل هذه الأمة تضمحل وتنهزم وتتقهقر ولكنها بفضل المصابرة لا تنهزم.
4- حصار الشعب في عهد الرسول :
ولعل أكبر أزمة مرت بها الأمة الإسلامية هي الأزمة التي عاشها الرسول هو وأصحابه وهم قلة حينما نبذتهم قريش وفرضت عليهم الحصار في شعب أبي طالب وفيهم رسول الله لا أحد يعاملهم ولا أحد يوصل الطعام إليهم ولاأحد يكلمهم والأمر كتب في وثيقة رسمية وعلقت على جدار الكعبة، فعاش رسول الله الضائقة بكل معانيها، وعمقها، ولكنه لم ينهزم ولم يتراجع ولم يقل لأصحابه : لقد أخطأنا، أو أتَيْنا في غير وقتنا المناسب، بل إنه بقي صابرا وصامدا مدة تقارب ثلاث سنوات في مجاعة حقيقية حتى كان الرجل يخرج بالليل فيجد شيئا على الأرض يتلمسه فيجده رخوا فلا يعلم ما هو فيلتهمه ويأكله لا يعلمه ما هو، ومع ذلك فالنبي صابر هو وأصحابه ومحتسب أكثر من المنفى، أو أكثر من المعزل، أو أكثر من حال السجناء في السجن، حيث يكونون على الأقل في ذمة الجهة التي تسجنهم ويتغدون على نفقتها، أما رسول الله فكان معزولا ومحاصرا ومحاربا وكان ممنوعاً من الحق الأساسي وهو حق الحياة، وكان يُنْتظَر منه أن يموت، ومع ذلك هذه الأزمة لم تَفُتَّ في عضد المسلمين، بل صبروا وثبتوا فأظهر الله بجهادهم هذا الإسلام.
ولما صبروا على العسر جاء بعد ذلك اليسر. وقام بالناس من صحا ضميره وقال إننا قد بالغنا في محاصرة هؤلاء الناس والتضييق عليهم وإن هذا الأسلوب لن ينفع، وإنهم لن يتراجعوا، وإنهم مازالوا على دينهم، فأعادوا النظر في هذه الوثيقة الظالمة الجائرة، ثم قام بعضهم إليها ليمزقها فوجدوا أن الأردة كانت قد سبقت إليها فأكلت منها كل ظلم كان مكتوبا فيها إلا كلمة واحدة هي “باسمك اللهم” والباقي كله أكل، لأنه كان ظلما وجورا، ومع ذلك كان عسرا أفضى إلى يسر.
5- الحملات الصليبية والتبشيرية والاستعمارية والحروب على الإسلام وشعوبه :
ومع ذلك لا تزال الأمة الإسلامية تمر بحالة مظلمة في حياتها ولكن ذلك لم يعُد بها إلى الوراء.
والغزو الصليبي للأمة، وهجمة المغول وهجمة التتار، واندحار المسلمين من الأندلس، وتكالب قوى الشر عليهم، والاستعمار والمخططات القديمة التي فعلتها الكنيسة، إلى الآن كل ذلك كان ابتلاء لشحذ الهمم وصقل النفوس وتعليمها الجهاد والمواجهة، ونحن الآن في مرحلتنا هاته نعيش ولا شك مرحلة من المراحل المظلمة الشديدة الظلمة في حياة الأمة الإسلامية، ولعلها أن تكون من أسوإ المراحل بسبب أن العدو الكافر الآن قد صمم على إنهاء وجود الإسلام، وقد هيأ منذ مدة للهجمة الشرسة على كل ما هو إسلامي تحت غطاء محاربة الأصولية، ومحاربة الفكر الرجعي، وتحت تغطيات متعددة، والمسلمون الذين كان فيهم استعداد من المائعين والمنحلين والإباحين والمنحطين ومن الماديين ومن المنتفعين ومن الوصولين كل هؤلاء صادفت هذه الدعوة في نفوسهم هوى فأعجبتهم هجمة تصفية الإسلام والقضاء عليه وعلى أهله.
إن الهجمة شرسة ونحن نعيش في عسر شديد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ولكنه عسرٌ سيجعله الله يسراً، إنه وعْدُ الله أن الأزمة إذا اشتدت لابد أن تنفرج، وكان علي بن طالب هو الذي قال: اشتدِّي أزمة تنفرجي، وسوف تنفرج إن شاء الله عن صحوة إسلامية حقيقية، عن صحوة تتجاوز جميع السلبيات وعن رجوع حقيقي لهذا الدين، لأن المسلمين الآن حتى المغفلون، حتى المخدوعون الذين كانوا يفكرون بعقول مستعارة سوف يكتشفون أنهم أمة وحدهم، وأنهم ليسوا أبدًا من الغرب، ولا الغربٌ يقبلهم ولا ينتمون إلى الحضارة الغربية المسيحية، والمسيحية لا تقبلهم إلا أن يكونوا ذيولا وعلى الهامش لكنهم سوف يكتشفون عاجلا أم آجلا أن الرجوع إلى الإسلام هو الخلاص، وهو الحل الوحيد، وهو الفرصة الأخيرة لهذه الأمة لأن تكون، وإلا فإنها لن تكون أبدا، لن نجد موضعا لنا على وجه الأرض إلا بهذا الإسلام الذي به نَعْتز وبه نُحترم وبه نُهاب.
أما الذيلية والتبعية والإمعية فقد مضينا فيها أشواطا وأشواطاً وأحرقنا فيها سنوات وسنوات ومع ذلك فلم تأتينا بأيِّ بطائل.