1- بـدء الـرسـالة:
أمضى موسى عليه السلام السنين المتفق عليها في خدمة الشيخ، ثم توجه بأهله نحوالجنوب حتى أدرك طور سناء، وفي ليلة مباركة أراد الله تعالى أن يخص موسى عليه السلام بكرامته ونبوته وكلامه، وكان قد أخطأ الطريق وأمسى لا يدرك أين يتوجه، وبينما هوعلى هذه الحال رأى نارا على بُعدٍ فكان ما كان من أحداث تشرحها الآيات التالية من سورة طه..
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى(10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى(12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(16)وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18)قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى(19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى(20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى(21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى(22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى(23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي(26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(27) يَفْقَهُوا قَوْلِي(28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29) هَارُونَ أَخِي(30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا(33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا(34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا(35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى(36)}.
… وبعد إعلانه بالتكريم والاختيار، والاستعداد والتهيؤ بخلع نعليه، يجيء التنبيه للتلقي:{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} ويلخص ما يوحى في ثلاثة أمور مترابطة: الاعتقاد بالوحدانية، والتوجه بالعبادة، والإيمان بالساعة، وهي أسس رسالة الله الواحدة: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى. فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}، فأما الألوهية الواحدة فهي قوام العقيدة..وعلى الألوهية تترتب العبادة، والعبادة تشمل التوجه لله في كل نشاط الحياة ولكن يخص بالذكر منها الصلاة، لأن الصلاة أكمل صورة من صور العبادة، وأكمل وسيلة من وسائل الذكر..فأما الساعة فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل العادل الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق..”(1).
المستفادات من هذه المرحلة:
* على الداعية عموما والمربي بشكل خاص أن يتعلم التأدب مع الله تعالى، فهذا عبده ونبيه المكرم والمختار موسى عليه السلام يمرنه الله على هذا الصنيع {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى}..فنيل المدد الرباني والتوفيق الإلهي رهين بطلب الزلفى إلى الله جل وعلا، والتواضع والتذلل بين يديه سبحانه هوالسبيل لبلوغ النصر الموعود منه.. فهذا وحده يجعل السداد والتوفيق حليف المؤمن المتقرب له..
* الزاد الروحي للمربي والداعية ضروري لكي يسهل عليه مجابهة الصعاب ودحض الأباطيل والأكاذيب، وهزم الطغاة والمتجبرين على الله تعالى، وفي مقدمة هذا الزاد الصلاة {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.. ويليها الارتباط باليوم الآخر {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}.. فالوسيلة الأولى، خضوع القلب الجسد والجوارح إلى البارئ تعالى وهي تبلغ مداها في صلاة الليل التي هي أشد وطئا وأقوم قيلا..والوسيلة الثانية هي الإيمان باليوم الآخر ففيه استعلاء على الدنيا وجواذبها الحقيرة وهوسبب في الثبات على الطريق وعدم التردي والضياع بسبب اتباع أصحاب الأهواء {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}..
* على المربي أن يتسلح باليقظة والفطنة وألا يكون من الغافلين {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا}..فالصد عن ذكر الساعة واليوم الآخر مأتاه كل مَن لا يومن بهما أولا، ومِن كل ذي هوى مطاع ثانيا..والمربي والداعية محاط بأمثال هؤلاء، فعليه الحذر والتيقظ كيلا يقع في براثين الهوى والضلال..قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(الأعراف :201) فهي الحساسية المرهفة اتجاه كل ما يصد عن السبيل القويم، والتنبه العالي لكل داع للانحراف مهما صغر..
* في تأييد الله لموسى عليه السلام بالمعجزات الباهرة إشارة إلى أن الله تعالى لا يترك عباده المصلحين والدعاة المستعمَلين في دعوته بدون تأييد مادي أومعنوي {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، ثم فيه كذلك أنه مهما كانت إمكانيات الدعاة والمربين قليلة ولا ترقى إلى مستوى التحدي الموجود- رغم أن عليهم دائما السعي الحثيث إلى توفيرها واكتسابها- فإن الله تعالى يجعل فيها القوة والغلبة ما دام هناك إخلاص وأخذ بالأسباب.. فالعصا المتحولة إلى حية عظيمة، واليد البيضاء للناظرين دليل على أن الله تعالى أراد أن يمنح نوعاً من التسلية لموسى عليه السلام.. فالملاحظ أن إخراج اليد التي وكز بها موسى القبطي فأرداه قتيلا متلألئة تهيج نورا للناظرين لدليل على الرفع من معنوياته للقيام بالمهمة المنوطة به في المستقبل القريب..
وإن كان الداعية والمربي لا يتطلع إلى أن يجري الله تعالى على يديه كرامات وآيات فإن خوضه لغمار الدعوة ومصارعته لأمواج الباطل المتلاطمة سعيا وراء انتشال الناس من براثين الجاهلية المعاصرة، وإنقاذهم من الغرق وإبلاغهم شاطئ الأمان والإيمان.. فإن هذا وحده شرف عظيم ووسام جليل يجعله يدخل تحت قوله تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}(فصلت : 33) فهذا الذي يسعى للإكثار من الساجدين لجلال الله تعالى، والمهتدين بنور هديه السني.. لأحق أن ينال الحظ العظيم بصبره واستماتته في سبيل الحق المبين {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُوحَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت : 35)..
ورغم هذا فقد يحتاج الداعية والمربي أحياناً إلى إشارات من العلي القدير تدله على صوابية الطريق الذي يسلكه، فقد تكون دعوة مستجابة دليله على أنه على الحق، وقد يكون انتصار معين علامة على صدق إقبال الله جل وعلا عليه، وقد يكون توفيقه تعالى في مهمة أومأمورية مساعدا على المضي قدما إلى الأمام.. فهذه الإشارات لها دورها في استقامة الفرد على النهج القويم، وتثبيت الجماعة المؤمنة والرفع من معنوياتها وقوة اتصالها بالله تعالى..
* وبمناسبة طلب موسى عليه السلام من الله تعالى أن يجعل له هارون عليه السلام وزيرا من أهله يشد به أزره ويشركه في أمره، فإن المربي أوالداعية عموما مهما بلغ من القوة والاستعداد تبقى في مكامنه نقط ضعف وجهات نقص.. لذا كانت الجماعة والعمل الجماعي من الوسائل الأساسية في تحقيق التعاون والتكامل وسد الثغرات وجبر النقص الحاصل عند الأفراد وذلك لما تقدمه من مناهج وبرامج وخطط عمل تجعل الأفراد يدورون في معمل يعيد تصنيعهم وتخريجهم من جديد {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}(طه 39)..
ومع هذا فعلى المربي أن يتوجه إلى الله تعالى بالطلب والدعاء ليرحم ضعفه ويجبر كسره ويمده بالعون والتأييد في أداء المهمة المطلوبة منه.. من هنا نلاحظ إلحاح سيدنا موسى على الله تعالى في الدعاء وطلب العون والمدد: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا. وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا. إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}..
فعلى الداعية أوالمربي أن يبين حاله ويقترح ما يعينه على الدعوة والتربية
وتتلخص مطالب موسى عليه السلام في ما يلي:
* طلب المدد والعون من الحق تعالى..
* طلب الأخ الصالح والصاحب التقي في السير إلى الله جل وعلا..
* الاجتماع ضمن الأخوة في الله على التسبيح لله تعالى وذكر آلائه العظيمة وأفضاله الجليلة (والجماعة على هذا يجب أن يكون سبب اجتماعها : الإيمان بالله، والاخوة في الله، للقيام بأمر الله)
* استشعار معية الله جل وعلا، والاستمرار على ذلك الحال وتحقيق شروط المعية الربانية وأسبابها : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}) {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.. {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}..{إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}..
* وفي قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} “هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة فيها إجمال يغني عن التفصيل وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل..كل ما سألته أعطيته. أعطيته فعلا. لا تعطاه ولا ستعطاه وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم وإيناس بندائه باسمه(يا موسى) وأي تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد؟
وإلى هنا كفاية وفضل من التكريم والعطف والإيناس. وقد طال التجلي، وطال النجاء، وأجيب السؤال وقضيت الحاجة.. ولكن فضل الله لا خازن له، ورحمة الله لا ممسك لها”(2).
إن إجابة الدعاء من خصائص عباد الله المتقين وأصفيائه الأبرار.. فعلى الداعية والمربي أن يحرص على بلوغ هذه المرتبة الجليلة بالصدق مع الله جل وعلا في العمل، والسعي الحلال >أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة<(الحديث) والإخلاص في الطاعات والقربات..
فما أحوج المربي أن يكون مستجاب الدعاء..
فهويريد إصلاح أهله وذريته ويحب من الله تعالى أن يستجيب دعاءه {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(الفرقان :74)، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}(إبراهيم : 40)، ويريد أن يصلح الله له عشيرته، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(هود : 88)..
كما يحب أن يستجيب له الله تعالى ويبارك عمله التربوي وتظهر نتائج تربيته في من يربي، ويرجوأن ترعاهم عين الله للخير وتحمل الأمانة..
كما أنه في حاجة إلى حصول القبول لدى الناس من خلال دعوته وقيامه بمهمة البلاغ المبين {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}..
هذا كله يجعل من كل داعية ومربٍ، يفتش في نفسه ويبحث في مكامن ضعف الصلة بالله تعالى، فيسرع إلى تدارك الخلل والتوبة الصادقة والعمل على تقوية الصلة به جل وعلا..
“… هل ترون إلى أرض عطشى تنتظر الري من الماء؟ هل نستطيع ريها بماء يجري تحت مستواها؟.. إن الإجابة ستكون بالطبع: لا -باستثناء المجنون أوصاحب الشطحات الصوفية إذ يعتقد أن الماء سوف يطلع إليها فيسقيها-. لا لن يسقي الماء الأرض بالصعود إليها، وإنما بالانحدار وذلك بحكم السنن الإلهية عن طريق الجاذبية، سنة الله تقضي أن ينحدر إلى هذه الأرض إذا كان مستواه يخوله ذلك..
إذن إذا اراد المسلم أن يقوم بدور الري بالنسبة للشعوب المتقدمة والمجتمع المتقدم، وأراد -بعبارة أوضح- أن يقدم المبررات الجديدة التي تنتظرها تلك الأرواح التي تتألم لفراغها وحيرتها وتيهها، إذا أراد المسلم ذلك، فليرفع مستواه بحيث يستطيع فعلا القيام بهذا الدور. إذ بمقدار ما يرتفع إلى مستوى الحضارة بمقدار ما يصبح قادرا على تعميم ذلك الفضل الذي أعطاه الله له، أعني دينه.. عندها فقط يصبح قادرا أيضا على بلوغ قمم الحقيقة الإسلامية، واكتشاف قيم الفضيلة الإسلامية، ومن ثم ينزل إلى هضاب الحضارة المتعطشة، فيرويها بالحقيقة الإسلامية، وبالهدى، وبذلك يضيف إليها بعدا جديدا…”(3).
2- أمر إلهي لموسى بالذهاب إلى فرعون :
أعد الله موسى لرسالته وأجابه إلى ما سأل فبعث معه أخاه هارون وأمره أن يذهب هووأخوه إلى فرعون مؤيدين بالآيات والمعجزات، ونهاهما عن الفتور والتقصير في ذكر الله وتبليغ رسالته، وأمرهما أن يقصدا فرعون بالذات لأنه هوالذي طغى، وأوصاهما أن يلينا له القول لعل ذلك يلين من طبيعته ويصلا إلى قلبه بحسن الكلام فيخشى الله.. قال تعالى في سورة طه:{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي* اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى}(الآيات : 42- 47).
وبمناسبة ما عاهد موسى عليه الله في طريقه إلى دعوة فرعون، نستخلص مجموعة من العبر والأسس والمقومات الخاصة بالدعوة والداعية، منها:
* العمل الجماعي المتكامل المقبل بصدق على الله تعالى..
* محاربة ومحاصرة دوائر الفتور والتقصير داخل الجسم والتسلح بالذكر والدعاء.
* التسلح بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.. ” الحكمة هي فعل ما ينبغي حين ينبغي مع من ينبغي”..
* الخوف من ذي السلطان لا يعيب الداعية إذا كان هذا الخوف يدفعه إلى مزيد من الحرص والتخطيط واستشراف المستقبل.. فالخوف ناتج أصلا على الدعوة ومصيرها وهوالمحرك في هذا السياق {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي ردا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي}(القصص : 34).
* استشعار معية الله تعالى وحفظه في كل خطوة يخطوها الداعية إلى الله تعالى {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}(طه : 36) {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَفظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(يوسف :64).
* تحديد الهدف من كل خطوة يخطوها الداعية، فموسى وهارون عليهما السلام كانت الخطوة الأولى في طريقهما الدعوي هي تصحيح التصور العقدي لفرعون(مفهوم لا إله إلا الله)، ثم الخطوة الثانية إعلامه بوظيفته كعبد من عباد الله في هذا الكون، ثم الخطوة التالية إقناعه بتحرير بني إسرائيل.. وكل هذا لهدف أكبر ومقصد أسمى ذكره المولى تبارك وتعالى في قوله : {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ}(القصص : 5).. فهذا من تكريم الله تعالى لعباده إن هم حققوا شرط الصلاح…
3- موسى وهارون يبلغان رسالة ربهما :
- لبى موسى وهارون أمر ربهما وذهبا إلى فرعون وبلغاه الرسالة، وكان فيما بلغه موسى لفرعون أن لا يقول على الله إلا الحق، وقد أيده بمعجزات تشهد بأنه رسول الله حقا، وطلب منه أن يسمح بخروج بني إسرائيل معه إلى فلسطين. قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ*حَقِيقٌ عَلَي أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيل. قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}(الأعراف : 104- 110).
- في خضم المعاناة على طريق الدعوة قد يحاول المدعوفي إطار ضلاله وعناده أن يجر الداعية خلا ل محاورته إلى أمور هامشية.. وهذه من الأمور التي من الواجب أن يتفطن لها الدعاة والمربون، ويعيدوا محور الخطاب إلى أصله ولا تلهيهم المناورات الحوارية.. ففي قصة موسى عليه السلام نجد انحراف فرعون بالحوار إلى زاوية أخرى تخص ماضي موسى عليه السلام.. قال تعالى:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ. قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(الشعراء : 18- 22).
فالجدال الذي قد يُجّرُّ إليه الداعية جرا من لدن المدعومن خلال نبش ماضيه أوما يرتبط به قد يصرفه عما جاء من أجله رأسا.. فالواجب الحذر من مثل هذه الأمور..
4- محاورة بين موسى وفرعون في ربوبية الله :
استغرب فرعون رسالة موسى فشرع يجادله في ربوبية الله ويسأله..قال تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ. قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ. قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ. قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين. قَالَ للملأ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}(طه : 23- 35).
في هذا السياق يحرص موسى على البقاء في حواره مع فرعون ضمن الموضوع الذي يخص الأمراض التي يتخبط فيها هذا المتأله على الحق تعالى..
عدد موسى بعضا من دلائل قدرة الله التي هي آيات على وجوده يدركها كل ذي عقل تأكيدا على تبليغ التصور السليم. قال تعالى:{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى. قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى. قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهادًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى}(طه : 48- 55).
على الداعي إلى الله تعالى أن يقدم دعوة الإسلام إلى الناس واضحة جلية بعيدة عن الإلتواءات والمنعرجات الكلامية أوالفلسفات المتبرجة في هذا العصر الموبوء.. فدعوة الحق سهلة فطرية تخاطب العقل والقلب معا وتسد منافذ التيه والضياع أمام كل إنسان…
5- فرعون يأمر ببناء قصر للصعود إلى السماء :
ألح موسى على فرعون بالدعوة إلى الإيمان وهوفي ملإ من قومه، ولما كان ذلك يضعف من هيبته ويحط من قدره، أصدر أمره إلى وزيره (هامان) بأن يبني له قصرا عاليا حتى يطلع إلى إله موسى على حد زعمه…قال تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِع إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}(غافر : 36- 37).
بمناسبة بناء الصرح في قصة موسى عليه السلام وفرعون، يجدر بالداعي إلى الله تعالى أن يعرف مدى إصرار الرافضين لهدى الرحمان ودرجة تعنتهم على الخضوع للحق، ومستوى الطغيان والتجرؤ على خالقهم وبارئهم جل وعلا..لأن ذلك يجعل دعوته للناس تكون على بصيرة وحكمة..
والواقع أن فرعون بصنيعه هذا أراد أن يتغفل القوم الذين معه حتى لا يخامرهم شك في قدرته.. وهذا صنيع كل من يتولى عن الهدى ويدعي ما ليس له بحق. ويذكر المفسرون أن هامان بنى له الصرح حتى بلغ نهاية ما قدر عليه من البناء ثم صعد فرعون وصوب سهما إلى السماء فعاد إليه النصل مخضبا بالدم (غمس فرعون السهم بالدم خفية عن قومه!) فقال لمن حوله: لقد قتلت إله موسى..
6- معجزات موسى وإيمان السحـــرة :
تطور الجدال بين فرعون وموسى في شأن رسالته الإلهية، فطلب فرعون من موسى عليه السلام دليلا يشهد بصدقه، فألقى موسى عصاه من يده فإذا هي ثعبان لا شك فيه يتحرك، وأخرج يده فإذا هي ناصعة البياض تتلألأ للناظرين..
قال تعالى في سورة طه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى(56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى(57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سوًى(58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى(60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى(61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى(62) قَالُوا إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى(63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى(64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى(65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمُ أَنَّهَا تَسْعَى(66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى(68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْر، َفَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى(71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِن السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى(74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا(75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى(76)}.
ويمكن استخلاص بعض الدروس التربوية والهدي الدعوي مــن الآيات السابقة نجملها فـي الآتي :
* في وقت شعور الطغاة بدنو نهايتهم وزوال القناع الذي يتسترون وراءه، فإنهم يلجؤون إلى وسائل كثيرة سعيا وراء تثبيت سلطانهم وتحصين باطلهم.. ومن بين الوسائل التي يتخذونها مطية لأغراضهم ما يلي:
- تبني قضايا الشعب والمجتمع {قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى} فهنا لم تعد الأرض أرض فرعون وحده رغم ادعائه الألوهية، ولم تعد (الأنا) هي المستعلمة، بل أصبح الأمر أمر الأمة (أرضنا) والقضية قضية الجميع..
- تشويه صورة الداعي إلى الحق..(لتخرجنا)، والناس لا يحبون أن يخرجوا من ديارهم وأموالهم، فالمغرضون يسعون جهدا أن يصوروا للناس أن الدعاة المصلحين هم من يسعون إلى التفرقة والتخريب لا إلى الإصلاح والصواب..
- جمع الكيد.. {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى}.. والتعبير القرآني يركز على جمع الكيد.. كيفما كان هذا الكيد وكيفما كان حجمه صغيرا أم كبيرا..المهم أن يزول هذا الكابوس الذي أحاط به وبملكه وهيلمانه..
* ثم ننظر إلى منطق الإصلاح والإفساد في منطق الطغاة.. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وأَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}(غافر : 26).. فالطغاة دائما يقلبون الحقائق ويشوهونها، وهم يسعون إلى إبراز صور مغايرة لما عليه الواقع بتسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية..فالمعروف عندهم منكر والمنكر معروف!.. والمصلحون في قاموسهم مفسدون، والمفسدون هم المصلحون في زعمهم..وهذا كله ناتج من جراء الشر المعشش في قلوبهم وعقولهم..وتربصهم بأهل الخير والهدى..وما مسألة (الإرهاب) في القرن الواحد والعشرين إلا مثال حي على منطق هؤلاء، وعلى اعوجاج معالمهم وفساد طريقهم..
* ثم تأمل أعوان الطغاة كيف يزينون الأهواء لأسيادهم..{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}.. فالداعي إلى الله تعالى يجب أن يكون على بينة من هؤلاء، ويعمل على جعلهم يظهرون بالصورة الحقيقية لهم، فهم منافقون وصوليون انتهازيون..همهم تحقيق المصلحة الآنية لأنفسهم والحفاظ على مناصبهم ومصالحهم..
* في إيمان السحرة دليل على أنه إذا كان الدعاة إلى الله تعالى صادقين في دعوتهم وسالكين سبل الحكمة والموعظة الحسنة في خطابهم، فإن الله جل وعلا يكرمهم باهتداء الناس على أيديهم.. وفي قصة موسى وهارون عليهما السلام، دليل على ما نقول، فقد حقق الله تعالى توبة وهداية الفئة القوية في المجتمع (السحرة)، وكانوا بمثابة الصاعقة على فرعون وملئه..ففي رجوعهم إلى الله عبر وعظات:
- {إنما صنعوا كيد ساحر}.. فالناس في عمومهم مسحورون: مسحورون بالإعلام، مسحورون بالأزياء، مسحورون بالفتن المختلفة في واقعهم المعيش.. وعلى الداعي إلى الله تعالى أن يزيل هذا السحر ويبين زيفه وزوره وبهتانه.. {ولا يفلح الساحر حيث أتى}.. {فألقي السحرة سجدا} هذا صنيع الأقوياء فما بالك بمن دونهم؟..
- صمود العقيدة وتحديها لكل التهديدات: فإذا كان الداعي والمربي قد سلك في دعوته الحكمة والتبصر فإن المهتدين بدعوته يمسكون بالهدى الذي بلغهم ويعتزون بما هم فيه حتى ولوتهددتهم الخطوب والمهالك..
- الصدق في الدعوة يبارك النتائج وينميها..
7- خــلاصــات :
زاد الداعي إلى الله تعالى:
* الصلاة وقيام الليل {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا).
* ذكر الله تعالى على كل حال “أن تكون حياتك ذاكرة لله تعالى”.
* التزام الجماعة المؤمنة.
* الإقبال على الله بصدق لكي يبارك في الجهود ويسدد الخطوات…
د. عبد الحفيظ الهاشمي
———
(1) في ظلال القرآن
2 – في ظلال القرآن
3- دور المسلم ورسالته / مالك بن نبي