دائماً كانت الثقافة الإسلامية هي العنصر الأهم في المواجهة، لأنها الثقافة الوحيدة التي تعبر عن “الذات” وتحصّنها وتحميها من التفكك والضياع إزاء تحديات التآكل والفناء. وكلنا نتذكر، وبوضوح، ما فعلته هذه الثقافة -على سبيل المثال- في مواجهة سياسات الفرْنسة في الشمال الإفريقي أيام الاستعمار.
لقد كانت حاضرة دائماً، بمستوى أو آخر، قبالة كل صنوف الاستعمار والغزو الفكري، وها هي اليوم تمثل خط المواجهة الأول والملاذ الأخير، في الوقت نفسه، في مواجهة محاولات الاحتواء الصهيوني.. ولن يكون (التطبيع) في نهاية الأمر، وبدئه، سوى محاولة للاحتواء.. إن الإعلاميين والمثقفين المهزومين في ديارنا يحاولون وضع الديكورات على الوجه الدميم لتزيينه وتجميله ومنحه -بالتالي- جواز السفر إلى عقلنا ووجداننا.
أيّ تطبيع هذا وسكين الغالب تغوص في لحمنا؟ كان العربي يوماً لا ينام على الثأر.. لا يرقأ له جفن وهو يجد نفسه في موقع المهزوم.. واليوم يطلب من ثوابت اللغة وأبجديات القواميس أن تتخلى عن وظيفتها وأن يصير الرضا بالهزيمة تجاوزاً للانكسار!
الصوت الإسلامي، منذ المدفع الأول الذي حمله نابليون بونابارت لاقتحام شطآن مصر، كان الصوت الوحيد القدير على المجابهة، رغم ما كان ينطوي عليه من ثغرات.
فيما بعد.. تآكلت كل الأصوات الأخرى ثم ما لبثت أن خفتت، وظل الصوت الإسلامي -الذي ينبض بعشق العروبة- عميقاً واضحاً صارماً قاطعاً كالسكين.. وحده الذي أعلن النذير قبالة كل ما يتهدّد هذه الأمة.. ولا يزال..
من ثم، فان لنا أن نتصور الدور الحقيقي الذي ينتظره في تحدٍ مركّب هذه المرة لأنه يبني معماره من حصيلة كل أنماط الصراع التي شهدها عالم الإسلام.. من خبرات كل القوى التي سعت عبر القرون إلى تقويضه.
إنهم يريدون -مثلاً- تحييد التاريخ.. تعويمه بعبارة أخرى.. فك الارتباط بينه وبين المؤثرات العقدية التي نسجت حبكته.
في المنظور الإسلامي هذا مستحيل.. والثقافة الإسلامية تزداد تألقاً إزاء المستحيل.. لقد كانت وستظل الأقدر على حماية ذاتنا من الضياع.
إن أحد أبعاد النظام العالمي الجديد هو فك الارتباط بين الشعوب وبين عقيدتها وتاريخها.. وضع الأمم كلها في حالة تساوٍ مطلق قبالة الصنمية الاقتصادية وآلياتها التي تمسك أمريكا والصهيونية بمحركاتها وأزرارها..
المسلم يعي هذا جيداً أو أنه سيعيه في يوم قريب، وحينذاك سيرفض المحاولة ويتأبى عليها متحصناً بعقيدته وبالثقافة التي تعكس قيمها وتصوراتها.
فقط ربما يكون المطلوب الآن هو المزيد من الوعي بالفقه الحضاري، بما يسمى بقوانين الحركة التاريخية التي طالما تحدث القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثوابتها ومعطياتها.. لأن هذا سيعطينا قدرة أكبر على المجابهة، ويمكننا من ممارسة دورنا بفاعلية أشد قبالة كل الصيغ الثقافية الجديدة التي تغطّيها ديكورات الصنّاع المهرة.. ويتلقّاها المهزومون حيناً باسم “التطبيع”، وحيناً تحت شعارات النظام العالمي الموحّد أو الجديد، وحيناً ثالثاً باسم نظرية فرانسيس فوكو ياما عن “نهاية التاريخ”!