إن من فضائل الإسلام وخصائصه المتميزة، أنه لكي يتكون المجتمع المسلم، تكويناً نقياً وقوياً وصالحاً ومتماسكاً، قد وضع كل من فيه موضع المسؤولية، وأبلغ تعبير عن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسؤول عن رعيته))(البخاري). فليس هناك أحد قد استثني من الاسترعاء ومن المسؤولية، وهذه المسؤوليات التي تبدو متفرقة. تلتقي وتتواثق عراها ويختلط بعضها ببعض، فهي تنتظم أحوال العباد وشؤون الناس كافة، فمسؤولية الإمام هي مسؤولية الدولة في الميدان الرحيب، وهي معلومة بالقوانين والتشريعات، معززة بالقوة البشرية العاملة في ميدانها، ولعل أوجز وأبلغ بيان لمسؤولية ولي الأمر في الدولة، هو ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن نفسه : ((لو مات جدي بطرف الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر)) فكان رضي الله عنه لا يرى أن مسؤوليته في رعاية الأمة قد انتهت باختيار العمال وتعيين الوزراء الصالحين، فقد قال يوماً لمن حوله : ((أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنتُ قضيت ما علي؟ قالوا : نعم! قال : لا حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته به أم لا؟)) لهذا كان يتعقبهم بالمراقبة والحساب العسير، متنقلاً هنا وهناك، يلقى الناس ويتحدث إليهم، ويتحسس أحوالهم، ويستمع إلى شكواهم ويحققها بنفسه، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، موضوع كبير جدير بالعناية، لأن فيه تحقيق مصلحة الأمة ونجاتها، وهو أيضا مسؤولية جميع أفراد المجتمع، وفي إهماله الخطر العظيم والفسادُ الكبير، والتملص من المسؤولية، وقد أوضح الله تعالى في القرآن منزلته من الإسلام، ورغب فيه وقدمه على الإيمان، فقال تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله}(آل عمران : 110).
إن حاجة المسلمين -اليوم- وحاجة مجتمعنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حاجة ملحة بسبب ظهور المعاصي جهاراً وانتشار البدع في المجتمع انتشاراً، وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤكد هذا الأمر بقوله صلى الله عليه وسلم : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))(مسلم)، فبين مراتب النهي عن المنكر الثلاث :
< المرتبة الأولى : التغيير باليد مع القدرة، ولا يمكن أن يقع إلا ممن يملكه، كأن يكون ذا سلطان أو ولاية على الغير، فإن لم يكن ذلك فلا سبيل إلى بسط نفوذ قوته على الآخرين، وهذا الطرف من الحديث موجه للذين لهم ولاية على غيرهم كالأب على أبنائه، والزوج على زوجه، وكذلك لأصحاب سلطان الظاهر الذين عليهم أن يقيموا حدود الله في أمة الإسلام، وعليهم أن ينهوا عن المنكر بالقوة المادية التي يملكونها. وقد ثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : ((إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن)) ولكن لا يجوز أن نقول أنه على كل من يرى منكراً أن يلجأ إلى قوة بدنه في صراع مع الآخرين بحجة إرادة التغيير.
< المرتبة الثانية : التغيير باللسان، واللسان يخاطب العقل في الإنسان، والاقتناع العقلي هو سبيل اللسان لإحداث التغيير، وأثر ذلك في النفس البشرية غير ذلك الأثر الذي تحدثه القوة المادية، فاللسان هو أوسط أدوات التغيير، وهو في الوقت نفسه أقدر على إحداثه من اليد وأعظم أثراً، وهذه الجارحة ليست ميسرة لكافة الناس، فإن استخدامها قد جعل لفئة من الناس خاصة، وهم الفقهاء والعلماء وأصحاب العقول الراجحة، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يتحرى الرفق والعبارات المناسبة والوقت المناسب والمكان المناسب عندما يريد الأمر والنهي، قال تعالى : {اُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل : 125).
قال سفيان الثوري رحمه الله : ((ينبغي للآمر والناهي، أن يكون رفيقاً فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، عدلاً فيما يأمر به، عدلاً فيما ينهى عنه، عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه)) وقال صلى الله عليه وسلم : ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلوفٌ يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإىمان حبة خردل))(مسلم).
أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لأغراض شخصية، كرياء وسمعة أو منفعة عاجلة، أو يتخلفون عن فعل المعروف ويرتكبون المنكر عن علم، فهم من أخبث الناس وأسوئهم عاقبة، قال صلى الله عليه وسلم : ((يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور في النار، كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون : مالك يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول لهم : بلى! ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))(البخاري ومسلم).
< المرتبة الثالثة : التغيير بالقلب، إذا عجز المؤمن عن التغيير باليد واللسان، انتهى إلى القلب، يكره المنكر بقلبه ويبغضه، ولا يكون مع أهله، فالقلب مستقر وموطن الإيمان، والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، قال تعالى : {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج : 44) إن للقلب فعلاً وتأثيراً يمكن أن يحدثه عند الغير، وهذا أمر يعرفه أصحابه من ذوي القلوب التي أنارت بصائرها مصابيح الإيمان وأنوار الإحسان، تلك القلوب التي عبد أصحابها ربهم بصدق يقين، وعلو همة، إنهم عباد الرحمان الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
إن إهمال وتعطيل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة من أسباب رد الدعاء وعدم النصر، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم))(أحمد).