روى الإمام البخاري عن أُبَي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ مِنَ الشِّعْر حِكْمة))(1).
رأينا في نص الباب السابق حديثا عن تعريف الشعر والموقف منه، وهاهنا حديث عن الموقف من الشعر وبيان وظيفته.
وحديث الباب يمكن النظر إليه نظرتين: نظرة من حيث التفصيل، وأخرى من حيث الإجمال:
أما من حيث التفصيل ففي الحديث ثلاثة أمور:
أولها أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ الشعر ولم يقيده، مما يعني أن الشعر الذي منه حكمة قد يكون شعر مسلم، وقد يكون شعر غيره، وأن وجود الحكمة في الشعر والنظر إلى تلك الحكمة لا علاقة له بعقيدة القائل وهويته، ومن ثم فالأهم هنا هو الحكمة” لأنها ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
والأمر الثاني هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((إن من الشعر حكمة))، ولم يقل مثلا: إن الشعر حكمة، والفرق بيِّن بين الاستعمالين، ففي اللفظ النبوي استعمال “من” التبعيضية دال على أن من الشعر ما هو حكمة، ومنه ما ليس كذلك، بخلاف اللفظ الآخر الدال على أن كل الشعر حكمة، وهو مخالف للواقع عقلا وعرفا.
والأمر الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حِكمة)) وفي رواية ثانية أنه قال ((حُكْما))(2)، وهي نفسها في سنن ابن ماجة(3)، لكن ضبطت الكلمة هكذا ((حِكَما)) أي أنها جمع حِكمة، وفيه مسألتان:
أولاهما التنكير في جميع الروايات، ومما يفيده ضرورة البحث عنها” لأنها غير معروفة سلفا، لذلك لابد من حفز الهمم لالتماسها.
والأخرى أن للفظ أصلا واحدا ((هو المنع))(4)، والمنع هنا ليس مقصودا لذاته” بل للإصلاح(5).
والحُكْم: ((المنع من الظلم… والحِكمة هذا قياسها” لأنها تمنع من الجهل))(6)، ولذلك عرّفها الأصفهاني بأنها ((إصابة الحق بالعلم والعقل))(7)، فمعنى الحديث بناء على ذلك أن منه ((كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه، وينهى عنهما. قيل: أراد بها المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس))(8).
والظاهر أن المقصود بالحِكم هنا ليس فقط ما قد يكون في الشعر من أمثال ينتفع بها الناس، بل كُلّ ما يمكن أن يستفيد منه الإنسان في الحياة، سواء أتعلق الأمر بِمَثل أم تجربة أم موقف… لأنّ مدار اللفظ في الأصل على ما يمنع من الجهل والسفه، وهذا لا يقتصر على الأمثال والمواعظ” بل يتعداهما إلى غيرهما، ومن ثم فالحكمة تشملهما وتشمل غيرهما، مثلما أن الحُكْم يشمل الحكمة وغيرها، إذ ((كل حِكمة حكْمٌ، وليس كل حُكم حكمة))(9).
وأما من حيث الإجمال فللحديث النبوي ثلاثة أبعاد:
بُعد أخلاقي يَكمن في التعبير عن موقف إيجابي من الشعر، إذ ما دام منه حكمة أو حُكم فإنه محمود، وقد يُذم إذا دخله السفه والجهل والظلم…، وقد رأينا في حديث الباب السابق أن حُكم الشعر هو نفسه حكم الكلام حُسنا وقُبحا.
وبُعد أدبي يكمن في توجيه الشعراء إلى أن يُعنوا بالجانب الدلالي لأشعارهم، ومن ذلك أن يضمنوها حِكَما وحُكْما مما يُمْكن أن يستفيد منه الناس، ويَمنعهم من السفه والظلم، وفيه توجيه إلى أن يكون الشاعر رساليا، وأن يجعل شعره رسالة إصلاحية تُرغّب الناس في الصلاح، وتحببه إليهم.
وبُعد تربوي يكمن في توجيه غير الشعراء أولا إلى الإقبال على الشعر، وثانيا إلى الاستفادة مما فيه من حُكم وحِكم، وثالثا إلى التعلم من الشعراء وشعرهم في هذا الباب.
بقيتْ مسألتان:
الأولى ارتباط حديث الباب بحديث ((إن من البيان لسحرا))، وقد ظهر لنا في مناسبة سابقة بقرائن لفظية وسياقية وسندية أنهما يشكلان نصا واحدا(10)، وبالجمع بينهما يمكن أن نضيف إلى ما فهمناه فهوما أخرى، نكتفي بالإشارة هنا إلى أحدها وهو أن جودة الكلام متوقفة على ما فيه من حكمة الدلالة وسحر العبارة.
والمسألة الثانية هي أن التحدث عن حكمة الشعر في الحديث النبوي الشريف من خصائص المرحلة المدنية لارتباط ذلك بكثرة الشعراء والحاجة إلى الشعر في خدمة الدعوة ومواجهة الأعداء، ومن ثم فالحديث عن حكمة الشعر ينبغي أن لا تغيب عنه الخلفيات الكبرى المرتبطة بالواقع العام للأمة، وحسبنا هنا أن نشير كذلك إلى أن كيان الأمة مرتبط -من ضمن ما هو مرتبط به- بتضمين الشعراء للحكمة في أشعارهم، وتربية الآباء أبناءهم على حب الشعر الذي فيه حكمة والإقبال عليه، وإقامة التربية العامة على التماس الحكمة في الشعر وغيره، وجعل الشعر مقوما من المقومات الثقافية لهذه الأمة.
———–
(1)- صحيح البخاري، 4/115، حديث رقم 6145، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر…
(2)- مسند أحمد، 3/228، حديث رقم 2761، وقد صححه أحمد محمد شاكر في هامشه.
(3)- صحيح سنن ابن ماجة، 3/232، ح.ر3039/3824، كتاب الأدب، باب الشعر.
(4)- مقاييس اللغة، 2/91 مادة “حكم”.
(5)- مفردات ألفاظ القرآن، ص: 248.
(6)- مقاييس اللغة، 2/91 مادة “حكم”.
(7)- مفردات ألفاظ القرآن، ص: 249.
(8)- النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/419 مادة “حكم”.
(9)- مفردات ألفاظ القرآن، ص: 249.
(10)- نصوص الشعر والشعراء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ص: 416-421..