إذا باشرنا بأفئدتنا كتاب الله تعالى للنظر في نماذج عباد الله المخلَصِين الصفوة المختارة التي اصطفاها وصنعها على عينه …وقال لنبيه عليه السلام: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(الأنعام : 90). فقد كانوا نماذج في الطاعة والتفاني في حب الله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(السجدة : 24) …فقد أدركوا وأبصروا، وابتلوا فصبروا فتضرعوا فوصلوا.
لننظر إلى تعامل رسل الله عند النوازل من خلال تضرعهم إلى رب العزة:
1- سيدنا نوح عليه السلام يدعو ربه أن ينجيه من ظلم قومه، يقول تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيم} (الأنبياء: 76). وفي سورة القمر : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ}(القمر : 9- 11) وهنا نلاحظ سرعة الاستجابة التي جاءت مباشرة بعد الدعاء.
2- سيدنا أيوب عليه السلام المعروف بالصبر يدعو ربه بعد أن أنهكه المرض ويدعو الله أن يشفيه، يقول تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}(الأنبياء : 83- 84) دعاء يغشاه التذلل ويكتنفه الحياء {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وفي سورة (ص) : {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَاب}(ص : 41).
فيأتي الجواب مباشرة مرفوقا بتوجيهات و عطاء زائد و ثناء عليه.
توجيهات والتذكير بالنعم: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الالْبَابِ. وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ}(ص : 42- 43)
ثناء عليه : {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }(ص : 44).
3- وعندما خرج سيدنا يونس من بين قومه غاضبا عليهم فابتلاه ربه ووقع في بطن الحوت. دعا ربه وهو يعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه. يقول تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُومِنِينَ}(الأنبياء: 87- 88). فجاءت الاستجابة لتنقذ سيدنا يونس من هذه المواقف الصعبة: هجران قومه وتهديدهم والغضب عليهم، ثم آمنوا بدعوته بعد أن غادرهم خوفا من غضب الله، وهو في ظلمات متعددة : الشعور بالذنب، ظلام أعماق البحر، وظلام بطن الحوت، وظلام الليل.
4- أما سيدنا زكريا فقد كبر في السن ولم يكن رزق ذرية تحمل مشعل الهداية من بعده. فجاء دعاؤه يبتغي ولدا يورثه النبوة ومنهاج الدعوة إلى الله، فدعا الله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}(الأنبياء: 89- 90). فاستجاب الله دعاءه مع العلم أنه كان كبير السنّ ولا ينجب الأطفال، وكانت زوجته أيضاً كبيرة السن. ولكن الله قادر على كل شيء.
5- وسيدنا إبراهيم يدعو الله تعالى : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمُ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}(البقرة : 129) . وبعد قرون يكون تحقيق هذا السؤال
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الامِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}(الجمعة : 2).
6- وسيدنا سليمان عليه السلام يسأل الله ملكا قويا لم يسبق لأحد ولن يعطى بعده لأحد سواه، وهذا قبل عصر التكنولوجيا والتطور العلمي والصناعي، قال سليمان عليه السلام : {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ }(ص : 35).
فحقق الله مراده {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}(ص : 36- 39) عطاء بلا حد ولا عد.
7- سيدنا موسى هو الآخر يلتجئ إلى ربه عز وجل أثناء التكليف الدعوي، فيدعوه {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِيَ امْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّن اهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}(طه : 25- 35).
فيكون تحقيق الطلب مباشرة {قَالَ قَد اوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً اخْرَى}(طه : 36- 37).
8- ويعرض لنا القرآن دعاء فتية أهل الكهف {إِذ اوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ امْرِنَا رَشَدً}(الكهف : 10) فيحقق الله مبتغاهم بالشكل الذي يناسب الظرف والسياق الزمني ودورهم الدعوي في بيئتهم {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}(الكهف : 11).
هؤلاء صفوة الخلق الذين عرفوا ربهم حق المعرفة {وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(السجدة : 24).
فعلى قدر الاجتهاد يأتي الإمداد وعلى قدر الاستعداد يأتي السداد.