تعتبر وحدة المرجعية في حياة الأمم والمجتمعات بمثابة صمام الأمان الذي بفضله تركز الجهود والطاقات، وتصان من غوائل التشتت والتبديد. ويتأتى لأهل سفينة المجتمع إمكان الإبحار الآمن، بفضل وضوح الرؤية ووحدة القصد اللذين تكفلهما وحدة المرجعية، فلا تصدر حركة إلا في الاتجاه الصحيح، الذي يجعل السفينة تنتقل بثبات، عبر المرافئ والمحطات، مترسمة خطة واضحة المرامي والأهداف، لا يطولها تبديل أو تعديل، إلا في ضوء ما يقتضيه الاجتهاد الشرعي المقاصدي المواكب لحركة الحياة، ومصالح العباد، بعيدا عن أي نزعة نفعية (براجماتية) فجة، ترفع المنافع السطحية العابرة إلى مقام المقاصد الكبرى للأمة.
فما دامت سفينة المجتمع تتحرك بحمولتها الهائلة، مستلهمة مرجعية الأمة التي تضرب بخيوطها وامتداداتها العقدية والفكرية والقيمية في الصغير والكبير، وتتغلغل في كل منشط أو مجال، فإنها ستظل في منأى عن أن تنال منها العواصف والتحديات والأهوال، بل إنها على العكس من ذلك، تزيد مناعتها قوة، وعودها رسوخا واشتدادا، وذلك سر من أسرار العمران، وسنة من سننه الكبرى التي يترتب على معاندتها أو الغفلة عنها انتكاسات كبرى وخسائر فادحة.
وإن الذي ينظر إلى سفينة مجتمعنا بعين الحكمة، وهي تبحر وسط الرياح الهوج، وتتهادى ذات اليمين وذات الشمال، وتغوص تارة وتبرز أخرى، لا يداخله أدنى شك، في أن حالها البائسة تلك، إنما هي نتاج حتمي لخلل عميق يشكو منه ما يفترض فيه أن يكون صمام أمان للسفينة، ضد الغوائل والانزلاقات والآفات، إنه غياب المرجعية الموحدة الصافية المبرأة من الشوائب والأخلاط، بل إن الأمر لأفدح من ذلك وأدهى وأمر، إنه تنازع المرجعيات داخل غرفة العمليات، وعلى صعيد جميع الشرائح والمستويات، فلا تكاد عينك تنعم بمشهد بديع متناسق الخطوط والألوان، حتى تباغتك لوحة قاتمة هجينة ليس لها عنوان، ولا تكاد أذنك تلتقط لحنا من أجمل الألحان، حتى تعكر صفوه أصوات البومة والغربان.
إن المرء وهو يعيش داخل سفينة لا تسلس قيادها لمرجعية الأمة التي عاشت على هديها خلال قرون متطاولة، واستشعرت في ظلها برد السعادة والأمان، لا يسعه إلا أن يجد إحساسا عارما بالغثيان، فهو لا ينفك عن حالة من التمزق والصداع، تلازمه ليل نهار، في اليقظة والمنام، فهي تكاد تكون شبحا قاتما يلاحقه كظله، يفرض عليه وضعا نفسيا مأساويا رهيبا، يتجرع قهره ومرارته.
إن مرجعية الأمة التي لا تبغي بها السفينة بديلا هي الإسلام في إشراقه وصفائه، في عدالته ورحمته وبهائه، في قوته وانسجامه، في رسوخه وامتداده، ومفاخره وأمجاده، وفتوحاته وإنجاده، ولن تجد السفينة المنكوبة اتجاهها المفقود، واستقامة سيرها المنشود،إلا في ظل هذا الدين، ولن يستعيد أهلها صلاح البال وهدوء الضمير، وجمع الشمل ووحدة المصير، إلا في ظل عقيدته الصلبة، وتعاليمه السمحة، وشريعته الرحبة، إنه البلسم الشافي الذي لا شفاء إلا شفاؤه، ولا ماء عذبا زلالا إلا ماؤه، وهل يريد أصحاب المرجعيات المناوئة إلا إدامة شقاء أهل السفينة المتهالكة؟ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ألا فليعلم الذين يشاكسون مرجعية الأمة بمرجعيات خرقاء، أنهم يبغونها عوجا، ويمعنون في جرها إلى هاوية ليس لها قرار.
إن رب العزة جل وعلا، الذي أكمل على أمة الإسلام نعمته وارتضى لها الإسلام دينا، قال لها في محكم تنزيله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، إنه الفشل وذهاب الريح حتى في ظل الجماعة المسلمة إذا انساقت وراء أهواء مؤقتة عابرة، خلال معركة محدودة في الزمان والمكان، فما بالك بتنازع جذري كاسح، أو لنقل -وهذا أدق وأصوب- منازعة خاطئة، لمرجعية الأمة ذات الأساس الرباني الحق، من طرف من أبوا إلا الانسلاخ من تربة هذا الوطن، في ظل دوامة رهيبة من التهجين والتدجين، خضعوا لها في استكانة وانهزام، وقعدت نفوسهم الفارغة عن محاولة الأوبة الصادقة إلى مرجعية الأمة الناصعة البياض، الواضحة المعالم والأهداف.
إن منازعة مرجعية الأمة التي شكلت وعاءها الحضاري المتين، من طرف مرجعيات منبتة، تحمل أصحابها كبر المعاندة الهوجاء، لتعد خرقا مهولا في سفينة الأمة يعرضها لضعف مشين، وخطر مبين، فهل إلى خروج من سبيل؟ وصدق الله القائل سبحانه: {ءآرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟}.