غربة حقيقية تلك التي تملكتني وشعور كاسح بالعجز ذلك الذي جعلني أتوارى خلف عجزي وأنا أدرك إلى أي حد تكلست مفاهيم الإصلاح لدى الناس وخلفتها منظومة تغيير دنيوي لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالدين. وبالعودة إلى البدايات فقد حملتني قدماي إلى حي شعبي من أحياء الدار البيضاء لقضاء مصلحة شخصية ورأيت في طريقي الناس يتحلقون حول شخص ما، وضجيج وصراخ وأيادي تحمل عصيا وقضبانا حديدية تخترق تلك الحلقة لتنهال بالضرب على الشخص إياه. ولفضولي الاعتيادي في مواقف من هذا النوع اقتحمت أنا الأخرى جمهرة المتفرجين لأجد نفسي أمام شاب يفترش الأرض الإسمنتية ويداري بيديه، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، سيل الأيادي والأرجل التي كانت تتقاذفه ضربا وركلا بلا رحمة، وخيوط من دماء تنحدر من أنفه وفمه وهو يصرخ متوسلا لكي يخلوا سبيله فلا يزيدهم توسله إلا شراسة في تأديبه.
سألت أحدهم مستنكرة فأجابني بلهجة غاضبة
- “هذا شفار كبير دابا عاد سرق صاك لواحد البنت خليونا نربيوه باش ما يعاودش”. كنت أريدهم أن يردعوه بطريقة أخرى تريه أن عمله هذا لا يقبله الله تعالى وأن جزاءه لو طبق التشريع الإسلامي حقا هو قطع اليد التي تروع الناس وتسلبهم أرزاقهم، (شرط تطبيقه في وضع يسود فيه العدل وتصان فيه الكرامة وتحفظ فيه الأرزاق)، ومن جهة أخرى فإن الله غفور رحيم.إلى آخره من الكلام الرباني الذي يتوجب قوله بأسلوب دعوي لا ترهيب فيه ولا فوضى..
كما كنت أريد أن أقول لهم دون أن أسقط في تبرير فعلته تلك، أن أحد عوامل التحريض على مظاهر السيبة هذه هي وسائل الإعلام بابتعادها عن الدين وشقها لعصا الطاعة لنبض الجماهير التي ائتمنها الله على عقيدتها كما ائتمنها على أمن البلاد وسلامتها الروحية. كما بدل هؤلاء العباد في سبيل وجود وسائل الإعلام هذه واستمرارها اقتطاعا ضريبيا من قوت أولادهم، في الوقت الذي تشتغل فيه هي ليل نهار على إعلاء منسوب الغربة وسعار الحكرة لدى متفرجيها إذ تحمل لهم على طبق من ذهب مسموم منظومة مادية غربية عبر أفلام ومسلسلات تنتصر في مبناها ومعناها للأقوياء والأثرياء وتتنكر للفقراء، الشيء الذي يفرز كل هذا التنفيس السلبي..
ولا غرابة ففي الوقت الذي يعيش فيه مجموعة من المواطنين تحت عتبة الفقر وتسود حياتهم اليومية تصادمات لا تنتهي، موضوعها المال والعيش، وديون مؤسسات الإقراض الجشعة إلخ ، تتفنن وسائل الإعلام هذه في عرض مخلوقات خارقة الجمال داخل فضاءات أسطورية الثراء والديكورات الطبيعية الخلابة بحرا وبرا. فماذا تريد وسائط الفتنة هذه من خلال برامجها هذه؟؟
إن الحال ليشبه حال جائع ألقمته حبات “لا حبة واحدة” لفتح الشهية ثم منعته من الأكل وفجأة وضعت أمامه أطباق الأكل بلا حسيب. تراه أمام ضراوة الجوع وطول الحرمان سيقيم وزنا للناس أو للأخلاق؟؟ وليس الكلام من عندنا حين نضع الإعلام في قفص الاتهام، فعلى سبيل المثال هل كان الناس مغيبون إبان سنوات الستينيات والسبعينيات حين كان الحرمان يدفعهم للانضمام إلى الأحزاب الثورية، كيف لم يفكروا في إحراق أجسادهم؟؟
وبالمقابل فمع مطلع الألفية الثالثة وحين تفجرت الانتفاضات الجماهيرية العربية وواكبت وسائل الإعلام بالصورة والتعليقات الاستنكارية، وموجة بلا حد من عبارات التهويل والتضخيم لمنظر شباب في مقتبل العمر يضرمون النار في أجسادهم، ويركضون بأجسام غدت كرة من لهب، آنذاك تغلغلت الصورة بكل إيحاءاتها إلى مخيلة المتفرجين من المحرومين، وتناسلت على إثرها حالات حرق الأجسام بشكل مفزع مخيف، وقد لعبت وسائل الإعلام بقصد أو عن غير قصد دور التحريض والتأجيج لمشاعر التيئيس وفتح الباب عريضا لاستلهام تلك العمليات الانتحارية للفت انتباه المسؤولين والمعنيين..
وباختصار فإن تجهيز اليائسين للعمليات الانتحارية أو الإرهابية سواء من الذات وإليها أو ضد الضحايا من الأبرياء المسالمين عن طريق سلسلة الخطابات والصور المثيرة كما أسلفنا، ناهيك عن برامج رصد المجرمين ونقل تجاربهم بالنقطة والفاصلة إلى أولئك الباحثين عن تعويض وتنفيس هو ما يصب في قنوات زعزعة الاستقرار وخلق المزيد من المتاعب لأمن البلاد.
وبالعودة إلى الحادثة إياها فقد سرى في السنوات الأخيرة عرف خطير على مستوى الممارسات الاجتماعية ويتلخص في استحداث خلايا في إبانها مهمتها مطاردة اللصوص الذين يتربصون بالمواطنين لانتشال حاجاتهم وإشباعهم ضربا قبل إطلاق سراحهم. ويتعلل أصحابها جميعا بالبطء الأمني الذي تعرفه قضايا من هذا النوع مما يعتبر إن جاز التوصيف إرهاصا لشكل أولي للعصيان المدني.
وكلنا قرأنا عن الفوضى التي تشهدها اللحظة مدن مغربية يفرض فيها اللصوص قانونهم وقصاصهم على العزل، وهم يتعرضون بشكل مكشوف للمواطنين في أماكن عمومية وبمواصلات عمومية كما حدث بمدينة برشيد حيث وجد الركاب أنفسهم رهائن لعصابة مدججة بالسيوف أسالت دماء السائق ونائبه..
إن إعادة الحديث حول هذه الظاهرة العدوانية للمواطنين ضد بعضهم البعض ثم هذا الفكر الانفصالي في التعاطي مع جهاز الأمن رغم المشاق التي طالت هذا الأخير بصفة أكبر مع تفجر انتفاضات ما سمي بالربيع العربي، وهذا الازدراء لهيبة السلطة التي تتكرس عبر انتشار السلاح الأبيض حتى داخل حقائب التلاميذ المدرسية وعبر اتخاذ المواطنين لقرار التسلح الذاتي، لهي البداية لا قدر الله لعصيان مدني يعرف الجميع عواقبه المتمثلة في سريان قانون الغاب وانتشار التصفيات وتعميم الرعب في صفوف المواطنين الشيء المؤذن بأشياء خطيرة قد تهدد حقا استقرار وسلامة البلد.
ومرة أخرى تضعنا هذه الأحداث في صلب سؤال الدين، فالسجون تسجل نسبة اكتظاظ كبير والعنف خاصة ضد الحلقة الأضعف المرأة في تزايد يجعلنا نتساءل عن غياب الفاعل الديني في هذه الهرولة إلى الجريمة بكامل أطيافها.
والمخيف أكثر حين تصرح مسؤولة إعلامية بمحطة تلفزية مغربية أنها لن تخضع لرئيس الوزراء، وكأن الأمر يتعلق بغريم أو بزوج شرس داخل بيت الزوجية لا مسؤول دولة له هيبته وأمامه أجندة من طلبات الكتلة الناخبة التي تشكل أكثرية بالمفهوم الديمقراطي وطلباتها المتعلقة بهويتها الدينية على المستوى الإعلامي تعتبر أوامر كما على المستويات الأخرى.
فهل يتواصل هذا النزيف وهل نحن ماضون في التأسيس لشبيحة مغربية لها أزلامها وسدنتها على غرار الشبيحة السورية الملعونة؟؟
ومتى يجمع شمل المؤطرين الدينيين لوضع خطط واستراتيجيات لمواجهة هذا الزحف اللاأخلاقي الذي يتغدى على استقواء العلمانية ومنابرها الإعلامية الطائشة كما يلتئم جمع كل أطياف المجتمع المدني، أم أن حب هذا الوطن والخوف عليه حلال عليهم حرام علينا؟؟؟؟