مع كتاب الله عز وجل
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
قال الله جلت حكمته : {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا انما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يوفك عنه من افك قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسئلون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون إن المتقين في جنات وعيون آخذين ماآتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم وفي الارض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}.
الهدى المنهاجي :
وهو في الرسالات السبع التالية :
-الرسالة الأولى : في أن قوى الطبيعة بشتى أنواعها، من سحب، وأمطار، ورياح، وأعاصير، وزلازل وبراكين، كلها مرتبطة بقوى الروح. وهذه حقيقة إيمانية لا يبصرها أصحاب المنطق المادي الصرف، لانحباس أعينهم تحت غطاء الكفر والإلحاد. والمؤمن يرى بنور الله، فيجد أن حركة الكون كلها مدبرة بتقدير عليم حكيم، فلا يرى غيمة واحدة إلا وأيقن أن وراءها ملك كريم يزجرها بإذن الله، ولا قطرات غيث إلا ويعلم أنها تنزلت بمكاييل ميكائيل عليه السلام، ولا يرى رياحا إلا ويبصر أن لها سائقا من الملأ الأعلى، ولا يصله رزق إلا ويؤمن أنه نصيب قُسم له عند المقسمات أمرا، على ما قدر الله وقضى… وهكذا، فالكون لا يسير بذاته، ولكنه مسير من لدن خالقه العظيم، في كل ظواهره وبواطنه. وواجب على المؤمن أن يفتح بصيرته، ليرى حركة التدبير الإلهي والمشيئة الربانية في كل شيء، وآنئذ يستفيد من ثمرات الإيمان بالوجه الأكمل، وينتفع بالتواصل الدائم مع عالم الغيب، ويستأنس به في سيره إلى ربه، ويذوق حقا معنى اليقين.
- الرسالة الثانية : في أن من أهم التنبيهات القرآنية في مجال التفكر مشاهدة الحركة في الكون، الحركة بشتى درجاتها وأنواعها، وأنت ترى كيف أقسم الرحمن جل جلاله في مطلع هذه السورة، بأربع قوى ذات حركة عظيمة في نشاطها، وهي : الرياح، والغيوم الممطرة، والناقلات السيارة بتسخير الله، والملائكة النشيطة في وظائفها الكبرى. فالحركة من أهم الظواهر الكونية الدالة على التدبير والتسخير والتسيير. وكلها راجعة إلى معاني أسماء الله الحسنى، وذلك من أعظم أبواب التعريف بالله جل جلاله، وتحقيق توحيده.
-الرسالة الثالثة : في أن اليقين هو الدين، وأنه لا قيمة لإيمان تخترمه الشكوك والظنون. خاصة فيما يتعلق بأصول الإيمان الكبرى، التي هي : الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وأن المؤمن هو من يعتقد أن الساعة حق يقين، وأن البعث حق يقين، وأن الحشر حق يقين، وأن الحساب حق يقين، وأن الجزاء حق يقين، وأن الجنة والنار حق يقين. لا مجال ولا لِقَدِر أنملة من الظن في هذا أو الشك، وإلا كان من الكافرين فاليقين هو الدين.
- الرسالة الرابعة : في أن تلقي حقائق الإسلام الإيمانية والعملية لا يؤخذ إلا بالوحي ومن الوحي، كتابا وسنة، وأن الخرص في الدين من أكبر الإثم، لما فيه من التقول على الله عز وجل والافتئات عليه. فقوله تعالى فيما تدارسناه ههنا : {قتل الخراصون} شامل لكل خراص فيما لا يجوز فيه الخَرْص، لأن الخارص في قضايا الغيب والإيمان لا يكون إلا كذابا، ولذلك فُسرت عبارة “الخراصين” في كتب التفسير بالكذابين. وعلى هذا يفهم قول رب العزة جل جلاله : {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد}(الحج : 3)، وقوله سبحانه : {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق}(الحج : 8- 9). وقال سبحانه : {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}(النجم : 23).
وهو تحذير ووعيد يجريان على الكفار وعلى المسلمين سواء. وقد يَفْجُر المسلم فيقع في هذا الوزر العظيم، كما نشاهده في زماننا هذا. وهذه كتب بعض المفتونين بالفلسفات الغربية من المسلمين، تعرض بعض القضايا العقدية الكبرى، وتفسر بعض أمور الغيب تفسيرا لا أصل له في عقائد الإسلام، وإنما هو مجرد خرص وتخمين، مغلف بمنطق التحليل والتعليل والخبير يعلم أنه ما في تلك الكتب من حقيقة العلم شيء، وإنما هي الشبهات والأهواء لها تجليات إغرائية، وتزيينات شيطانية. فكل من تقَوَّل على الله بغير الحق فقد عرَّض نفسه لنقمة الله، والعياذ بالله.
-الرسالة الخامسة : في أن عبادة التفكر في خلق السماوات والأرض، وفي آيات الأنفس، من أهم المسالك الموصلة إلى اليقين، لكن بشرط أن يكون الانطلاق فيها من القرآن إلى الطبيعة، لأن القرآن هو مبصار الإيمان. وأما من عزل القرآن عن المحيط الكوني، واستغنى عنه في تفكره ومشاهداته، فإنه لا يرجع إلا بالعمى والحيرة والتردد، ذلك أن القرآن هو كلمة السر التي بها يفتح الفكر طلاسم الوجود، وبها يفتح كنوز الأسرار في معرضه الكبير. إن الجبال، والأحجار، والأشجار، والأنهار والبحار، والأفلاك، والنجوم، إلى غير ذلك من أنواع خلق الله في السماوات والأرض، كلما عكست شعاع القرآن أتت بوميض شديد، يكشف آثار أسماء الله الحسنى المتجلية على كل شيء. ثم تتدفق منها واردات اليقين لتعمر قلب العبد المتفكر المتدبر. إن الكون هو كتاب الله المنظور، لكن القرآن هو النور الضروري الذي به نقرأ ذلك الكتاب ونتلقى إشاراته.
-الرسالة السادسة : في أن التزود الروحي من موارد العبادات، وخاصة منها الصلاة، والتهجد بليل، والاستغفار، وسائر ضروب الأذكار، وهو من أهم المغذيات الضرورية للسائرين إلى الله، كما أن ذلك من الثوابت التي لا يجوز لمؤمن – بله داعية إلى الله – أن يقفر قلبه منها، أو تجفو عنها أشواقه وأذواقه. وإن ذلك لمن أهم المؤشرات التي بها تعرف سلامة السير من عدمه. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على ذلك حثا، رجالهم ونساءهم، كبارهم وصغارهم، وكأنما هو بصدد الدعوة إلى نفير عام.
فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام، فقال : “يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه”(1).
- الرسالة السابعة : في أن خدمة أهل الحاجات من خلق الله، ومواساتهم بالزكوات والصدقات، وإغاثة الملهوفين والفقراء والمحرومين، من أعظم القربات المستدرة لرحمة الله ومغفرته ورضاه. وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولايُسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة”(2).
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبتون نفقات مهما قلت على بعض أقاربهم الفقراء، وقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك مشهورة، إذ كان ينفق على ابن عمه مِسْطَح بن أثاثة، لقرابته منه ولفقره، فلما بلغه أنه كان ممن تكلم في عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، غضب وقال : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله : {ولا ياتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}(النور : 22)، فقال أبو بكر الصديق : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا(3)، وبمثل ذلك كان الصديق رضي الله عنه صديقا. فصلى الله عليهم أجمعين.
مسلك التخلق :
وهو هنا في بيان منهاج التحقق بمقام اليقين، إيمانا بالله واليوم الآخر، وكيفية التخلق بوصفه. وإنما وسائله العملية مركزة في ثلاث طرائق، مستخلصة مما سبق، وهي :
-الأولى : إدمان التدبر لكتاب الله عز وجل، تدبرا يستحضر فيه المتدبر أن المتكلم بهذا القرآن هو الله رب العالمين. هذا أمر أساس، إذا انفلت من قلب المتدبر ضاع منه التدبر.
-الثانية : التفكر في الخلق من عالم الأنفس إلى عوالم الآفاق، بما حددنا له في الرسالة الخامسة من ضابط اعتماد المنظار القرآني.
-الثالثة : الاستعانة على ذلك كله بإخلاص العبادة لله، ومناجاته تعالى بالأدعية والأذكار، في الليل والنهار، وفي خلوات الأسحار.
ذلك، وما التوفيق إلا بالله. جعلني الله وإياكم من أهل اليقين الراسخين.
——-
1- رواه الترمذي، والحاكم، والبيهقي في الشعب، وأبو نعيم في الحلية، وعبد بن حميد في مسنده. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، بينما حسنه فقط الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
2-3- متفق عليه.