شرح الأربعين الأدبية(17)
د. الحسين زروق
روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وَيْلَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ))(1).
وقفنا في الحلقة السابقة مع ثلاثة أمور مرتبطة بهذا الحديث، أولها خاص بالنازلة(مدح رجل رجلا)، وثانيها خاص بتعليق النبي صلى الله عليه وسلم على مدح المادح، وثالثها خاص بتوجيهه ليكون مدحه مقبولا، وقد نظرنا فيها جميعا إلى المدح والمادح وبقي الممدوح، وهو موضوع الأمر الرابع.
وأما الأمر الرابع فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مدْح المادِح قطعا لعنق الممدوح، وقد سبق أن المراد بقَطْع العُنق التعبير عن الإهلاك، فظهر أن في هذا المدح إهلاكا للمدوح.
والملاحظ أن الحديث في رواياته المختلفة لا يسعفنا في معرفة من الممدوح، كما لا يسعفنا في الجزم بأنه كان حاضرا وقت المدح أو غائبا، ولذلك فالتعليق والتوجيه النبويان للمادح روعي فيهما الممدوح وكفى، بغض النظر عما إذا كان حاضرا أو غائبا، ويتْبع ذلك أن الأمر سواء أيضا بغض النظر عن جنس الممدوح، ووضعه الاجتماعي… إذ الأثر بالغه لا محاله.
ثم إن النبي ( ذكر أن الذي يتضرر في الطبقة الأولى هو الممدوح، ولم يذكر ضررا للمادح، وإن كان ذلك يفهم من عملية قطع عنق الأخ أو الصاحب، وفيه ما فيه من القبح، ولكن التركيز على الممدوح يجعلنا نولي وجهنا شطر هذا الأمر أكثر من سواه.
والممدوح لا يحضر فقط في الحديث النبوي من خلال بيان أثر المدح عليه؛ بل من خلال أمور أخرى أيضا:
منها أنه وصف بالأخ في رواية، والصاحب في أخرى كما سبق.
ومنها أنه قد لا يكون بالصورة التي يرسمها له المادح.
ومنها أن المادح يجب أن يَحْكُم على ظاهر الممدوح، ثم يترك ما خفي عنه منه لله تعالى.
ومنها أن علم المادح بالممدوح يبقى نسبيا.
وأحوال الممدوحين هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يطالب المادح -إن كان ولا بد مادحا- بعدم المغامرة في المدح ناظرا في ذلك إلى حقيقة الممدوح، ثم إلى أثر المدح عليه.
لكل ذلك كان حال الممدوح مرعيا:
فإن كان في غير مستوى المدح، تضرر هو والمادح والأمة كلها:
أما هو فلأن الصورة التي تقدم عنه تحجب عيوبه، وتطمئنه إلى أن وضعه الإيماني مرضي، ثم لا يؤمن عليه ((العجْب لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضَيع العمَل والازدياد من الخير اتكالا على ما وُصف به))(2).
وأما المادح فلأنه زكّى من لا يستحق التزكية.
وأما الأمة فلأنه قدم لها صورة غير حقيقية عن شخص، مع العلم أن هذه الأمة تولي أهمية بالغة للعلم بالرجال وأحوالهم، ولها في ذلك ميزان معروف في الجرح والتعديل.
وإن كان الممدوح في مستوى المدح تضرر أيضا؛ لأنه ((لا يُؤمن أن يُحدث فيه المدح كِبْرا أو إعجابا، أو يَكِلُه إلى ما شهره به المادح فيفْتر عن العمل؛ لأن الذي يستمر في العمل غالبا هو الذي يعدّ نفسه مقصّرا))(3).
والخلاصة في حديث الباب أن مدار الأمر كله في المدح على علته في نفس المادح، وأثره في نفس الممدوح، ولذلك أثره الذي لا يخفى ليس على الفرد فقط؛ بل على الأمة كلها، وحسبنا من ذلك أن نقف على حجم الكارثة التي تصيب الأمة عندما يُمْدَح فيها الجبانُ بالشجاعة، والبخيلُ بالكرم، والجائرُ الظالم بالعدل، والمنافقُ بالإيمان والتقوى…
وإنه لمن لطف الله تعالى بهذه الأمة ونعمه عليها أن علماء الجرح والتعديل لم يقيموا هذا العلم الذي انفردت به أمتنا عن كل أمم الأرض استنادا إلى أقوال الشعراء، فلم ينقلوا تعديلا عن شاعر مادح، ولا نقلوا تجريحا عن شاعر هجّاء قادح.
—————
1- صحيح البخاري، 2/161، حديث رقم 2662، ك. الشهادات، ب. إذا زكى رجل رجلا كفاه.
2- فتح الباري، 10/477.
3- م.س.