الشهادة لله عز وجل باستحقاق العبودية لا قيمة لها إلا إذا كانت عن علم ويقين:
نحن الآن مع قول الله تعالى {الله لا إلاه إلا هو وعلى الله فليتوكل المومنون} هذا الجزء تذكير بالحقيقة الكبرى التي عليها تأسس هذا الدين، والتي تشكل اللبنة الأساس في معتقد كل مومن، وهو اعتقاد بأن الله لا إلاه إلا هو، ومعلوم أن الإنسان حينما كان يراد منه أن ينضم إلى صفوف الإيمان وإلى أن يكون من أتباع رسول الله كان يطلب منه أن يشهد هذه الشهادة العظيمة وهي أن يقول: > أشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله< وبهذه الكلمة فقط ينضوي الإنسان في صفوف المؤمنين، وحينما يأباها ويرفضها ويستعلي عليها فإنه لا يستحق صفة الإيمان أبدا، والأحاديث جاءت ناصَّةً على ذلك مشيرة إلى أن من شهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله دخل الجنة، والمؤمن حينما يريد أن يحقق إيمانه ويعبر عن إيمانه يقول أشهد أن لا إلاه إلا الله.
ومعنى ذلك أن الإنسان لا بد أن يشهد على شيء استقر في قلبه واطمأنت إليه نفسه، والشهادة لله لا تتم إلا عن علم، وعن يقين، فالإنسان لا يشهد على شيء هو متشكك فيه، فإذا شهد الإنسان شهادة ما فمعنى ذلك أن له علماً سابقاً بهذا الأمر، فالطبيب مثلا لما كتب شهادة عَمَّا عَلِمَ من حال هذا الإنسان بعد أن جَسَّ نَبْضَه وتتبع أحواله، فاستبان له أن أحواله غير سوية، فشهد، فإنه يشهد بناء على العلم، فلولا العلم الذي كان عند الطبيب بأحوال هذا المريض ما صح له أن يشهد له بذلك، بينما لو أَعْطَى أيُّ إنسان عادي شهادة للمريض بأنه مريض بكذا فإن تلك الشهادة لا قيمة لها، لأن شهادته بدون علم، وكذلك إذا شهد خبير في الجيولوجيا أو خبيرفي المعادن أو خبير في البناء أو ما أشبه ذلك، بأن هذا البناء متين وأنه متماسك وأنه يتحمل كذا وكذا من الطوابق، فالمهندس الذي يشهد هذه الشهادة بعد أن استقر في نفسه وفي علمه أن هذا البناء في وصفه كذا وكذا، فإن شهادته معتبرة.
فالشهادة مقتضاها أن يكون هناك علم سابق، والله تعالى دعانا إلى ذلك فقال : {فاعلم أنه لا إلاه إلا الله}(سورة محمد) فالعلم أسبق من الشهادة، أي العلم الذي يشهد به الإنسان أسبق، فإذا عَلِمَ الإنسان واستدل وبحث وفكر وتأمل وعلم وانتهى به فكره إلى هذه الحقيقة التي هي : أن الله تعالى حق، وأنه موجود، وأن الملائكة حق، وأن الرسالة حق، بعد ذلك يشهد هذه الشهادة فيقول أشهد على هذا الأمر، إذ ذاك يكون للشهادة اعتبار وقيمة.
إذن الشهادة هي نهاية اليقين القائم في النفس، وبذلك فقط يستطيع الإنسان أن يؤدي الشهادة وأن يقول : إنني شهدت بأن هذا الأمر كذا وكذا، إذن هذه العقيدة، أو هذه الجملة، التي فيها “لا إلاه إلا الله” جملة لا تعوضها جملة أخرى، في الإسلام جمل كثيرة يمكن للإنسان أن ينطق بها، إذا قال مثلا الله أكبر، هي كلمة عظيمة، وكلمة جميلة ومؤدِّية للمعنى المقصود، وإذا قال الإنسان كذلك : الله موجود، فهي كلمة مشرقة، وإذا قـــال الإنسان : الله ربي فهي كلمة حسنة أيضا، لكن كل هذه الكلمات ليست تغني أبدا عن الشهادة التي تعني الإقرار باستحقاق الله تعالى وحده للعبودية، لا يمكن للإنسان أن يصير مسلما إذا قال الله أكبر، بدل لا إلاه إلا الله.
إن شيئا من ذلك لا يكفي أبدا، لماذا؟ لأن لهذه الكلمة من الدلالة، من المعنى، ومن العمق ما لا يمكن أن يكون لكلمة أخرى، هذه الكلمة تتضمن معاني جليلة عظيمة تصلح بها حياة الإنسان، فيها البراءة من كل ما سوى الله عز وجل لأنك لا تقول الله موجود أو الله إلاهي، بل تقول : “لا إلاه إلا الله” وطبعا عندما تقولها تكون قد انسلختَ من كل عبودية، ومن كل دين، ومن كل ملة، ومن كل نِحْلة، ورفضت جميع ما يتعلق به البشر جملة وتفصيلا، ثم يكون بعد ذلك الإقرار لله بأنه وحده الإلاه.
شهادة “لا إله إلا الله” فيها براءة وتخلص من جميع المعبودات وفيها إقرار بالمعبود الحق:
فإذن كلمة “لا إلاه إلا الله” تتضمن في الأساس شطرين عظيمين : الشطر الأول هو البراءة والتخلص من كل عقيدة غير عقيدة الإسلام وغير عقيدة الإيمان بالإسلام، وهذا أمر عظيم، وهذا أمر هو المطلوب.
ثم الانتقال بعد ذلك إلى الإقرار بأن الله هو إلاهُكَ، لذلك قالوا: إن هذه الكلمة لا تعْدِلها كلمة أخرى، وهي من حيثُ الوضْعُ أعمق. ماهناك في بيان التوحيد كلمة أخرى أو تضاهيها، بل هي الكلمة التي تؤدي معنى التوحيد كاملا شاملا، ولذلك كما كانت كلمة توحيد بالمعنى والدّلالة، فهي كلمة توحيد بالوضع، أي لَمّا كانتْ موضوعة على هذه الصيغة كانت مؤدِّيةً قُصَارى ما يمكن أن تصل إليه كلمة في باب توحيد اللهعزوجل، حتى لوقلت “الله إلاه” أو أقِرُّ لله بأنه إلاه، فنقول هذه الكلمة أيضا لا تصل إلى قولك “لا إلاه إلا الله” لأن قولك : “الله إلاه” إنما فيها إثبات الإلوهية لله، ولكن ليس فيها البراءة ممَّا سوى الله، إذن فكلمة “لا إلاه إلا الله” كلمة فيها انسلاخٌ وانفصال وبراءةٌ وتخلُّصٌ من جميع المعبودات التي يعبدها البشر، وفيها من جهة أخرى الإقرارُ لله بأنه الإلاه.
عقيدة “وحْدة الوجود” من أفلس النظريات الشيطانية:
هل كان بالإمكان أن نزحزح هذه الكلمة الدالة على معان كبيرة، هل بالإمكان أن يُوجِد البشرُ كلمة دالةً على التوحيد مثل قولك “لا إلاه إلا الله”. إذا أتيت بكلمة أخرى لا بد أن تفسد المعنى وتغيره وتجعله معنى آخر لا يؤدي بك إلى نفس المصير، لا يؤدي بك إلى التوحيد، جاء أناس في عصور متأخرة من تاريخ المسلمين فتفلسفوا، وظهر لهم أنهم يمكنهم أن يأتوا بخير من هذا الذي في كتاب الله، فقالوا : نظرنا في الكون فلم نجد في الكون فاعلا إلا الله فالكُلُّ من الله، والكُلُّ من فعل الله، فألغينا الكائنات، ونفينا الكائنات، ومحينا الكائنات، وقلنا : إنه لا موجود إلا الله. فانتقَلُوا من “لا إلاه إلا الله” إلى عقيدة أخرى وهي “لا موجود إلا الله” لذلك أصبح الرجل منهم يقول ليس في الجُبَّةِ إلا الله، وأدى هذا إلى اضطراب، وارتباك، وإلى ارتجاج، وكانت هذه الكلماتُ تزعزع العقيدة، وانتهى الناس إلى “وحْدَة الوُجُود” وهي المعروفة بنظرية “وحدة الوجود” كأنه ظهر لهم أنهم يُمَجِّدُون الله، ويعظمون الله، لَمّا قالوا : لا موجود إلا الله، شَطَّبُوا البشر، ومَحَوْا الكائنات، قالوا إننا قد وصلنا إلى لُبِّ التوحيد.
إن التوحيد السطحي، وإن الأمر البسيط العادي في التوحيد هو أن تقول “لا إلاه إلا الله” لكنك إذا تحققت وتغلغلت في التوحيد انتهيْتَ إلى شيء أعظم، فقلتَ لا موجُودإلا الله، فإذن ستَفْنَى وتنْمَحِي، وكذلك الوجود كله من حولك سينمحي، أي لا يبقى إلا الله. وهذه الكلماتُ كلماتٌ جميلة تُعْجب بعْض الناس وتُطربهم.
إن هذه النظرية الفاسدة أدت إلى نتائج فاسدة، فقال بعض الناس كيف يعبُدُ الله نَفْسه؟؟ إذا كنا نحن مظاهر لله، فكيف نعبُدُ الله؟؟ ونحن جُزْءٌ مِنْهُ؟؟ أو مظاهرُ له؟؟ إذن فلا عبادة حينئذ. إن العبادةَ إنما يتوجه بها ويقوم بها السطحيون الذين لم يبلغوا عُمْقا في التوحيد، أما الذين بلغوا درجة عليا في التوحيد فقد تَرَكُوا العبادة، لأن العبادة لم يعُد لها معنى، ما عَبَدت الله إلا لأنَّكَ اعتقدت بأنك موجود، أي أنْتَ مَوجودٌ مع اللَّهِ الموجود، أي أنْتَ شيء والله شيءٌ آخر، فأنت تعبده لهذا، لكنك إذا سلختَ نفسك، ونَفَيْتَ نَفْسَكَ، ووصلت إلى درجة المحْو، ودَرَجَةِ الذَّوبان، فلا تعْبُد الله، لأنك لست موجوداً حتى تعبده، بل أنتَ هُوَ، وهو أنْتَ، أيْ حَلَّ فيكَ فاتَّحَدتُّمَا. هل هناك فلسفة ضَالَّةٌ مُخَرِّفة أكْثر من هذا الضلال والتخريف؟؟! هذا من أخطر الضلال بإسم التوحيد.
الإسلام جاء ليكلف البشر ولم يأت ليمحوه:
والإسلام لم يأت لينفي البشر أو الناس وإنما أتى ليثبتهم ويكلفهم ويلزمهم بعبادة هذا الله الواحد الأحد الفرد الصمد، إذن لاحظوا أن هذه الكلمة الصغيرة “لا إله إلا الله” كلمة عظيمة من حيث المفهوم، كلمة عظيمة من حيث الدلالة، وليس في إمكاننا نحن أن نغيِّرها أو نُحَرّفها، أو ننقص منها، إذا كنا نريد أن نمضي على خطة الإسلام ومنهجه ومذهبه.
كلمة “لا إله إلا الله” فيها نفي وإثبات، نفيٌ لما عدا الله، وإثباتٌ لله وحده:
كلمة لا إلاه إلا الله فيها النفي لكلمة إلاه، أي لا إلاه يستحق العبادة، والإلاه إسم جنس عام للمعبود بحق وبغير حق، فالإلاه ما عُبِدَ سواءٌ كان حقا أو كان باطلا {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتِّخَذََ إِلاَهَهُ هَوَاهُ} فالإلاه صار إلاها لأنه عُبد وخُضع له. ولذلك تصبح “لا إله إلا الله< مفتاح الدخول في الإسلام.