- لم يُجْدِ مغلى الأعشاب شيئا يا أبا زهرة.
قالتها أم زهرة وهي تتحسر على فلذة كبدها الممددة أمامها.
نهض أبو زهرة مسرعا … تجرع الحزن وهو يرى زهرته الذابلة تتلوى من شدة الألم على الحصير الخشن… حملها بين يديه وامتطى حماره، وقطع الطريق الملتوية بين الجبال إلى أقرب مستوصف، كانت الشمس حارة، وكان جسده يتصبب عرقا… اقتحم الحشود المزدحمة أمام المستوصف، غير أن الممرض الوحيد هناك بادره دون أن يسأله : “الطبيب في عطلة، ولا أدري متى سيأتي!” … قاس حرارة المريضة وضغطها، وسلم لأبي زهرة ورقة مختومة وأمره أن يذهب بها إلى مستشفى المدينة.
ظل واقفا أمام الطريق يترقب المواصلات، والمريضة ممددة تحت ظل شجرة…وأخيرا، ركب ظهر شاحنة محملة بالبقر… وراح ينضح جبين ابنته بالماء، ويحرك منديلا ذات اليمين وذات الشمال ليطرد الذباب.
استوقفهالحارس عند باب المستشفى، ناوله الورقة المسلمة له من ممرض المستوصف، غير أنه لم ينظر إليها، ولم يأذن له بالدخول… استعطفه وهو يرتعش …فراح الحارس يطرح عليه أسئلة :
“لماذا أتيت إلى هنا؟ …ومم تعاني ابنتك؟ ومن أين أتيت؟…” وأجاب أبو زهرة عن كل الأسئلة، غير أن الحارس لم يفتح الباب…فهم مبتغاه، فدس في يده عشرة دراهم، ففتح على التو الباب أمامه، وهو يبتسم ويدعو لابنته بالشفاء.
المستشفى متاهة كبيرة، سار بين ردهاته الطويلة حاملا ابنته، كل جناح كتب عليه تخصصه، لكنه لا يعرف القراءة، رجا ممرضة صادفها في طريقه أن تساعده، لكنها هزت كتفيها وهي تلوك اللبان بين أضراسها … وأحس أن كل ذوي الوزرات البيضاء غرباء عن هذا المستشفى أو هو غريب هنا، كانوا يتحدثون بينهم لغة لا يفهمها، وقف أمامهم ينتظر، لعلهم ينتهون من حديثهم ويساعدونه… وتذكرعندما كان طفلا، أتى به أبوه إلى المستشفى …تحدث الطبيب الفرنسي إلى مساعديه، … فأخذته الراهبات إلى غرفة للأطفال، وأحطنه بالرعاية واللعب.
أخذه مريض إلى مكتب المواعيد… ظل واقفا في الطابور الطويل “الموعد بعد ستة أشهر!”قال الموظف وهو يوقع على الورقة…استعطفه أبو زهرة : “أرجوك، سيدي، حالة ابنتي خطيرة…انظر إليها إنها ممددة هناك على الأرض!”. نهره الموظف : “خذها إلى عيادة خاصة!” وانكفأ على سجل ضخم أمامه.
أرشده مريض آخر إلى قسم المستعجلات… آهات تتعالى من هنا وهناك، ومرضى ممددون على الأرض، سيارات الإسعاف تحمل جرحى ومغمى عليهم… وأخيرا، جاء دور ابنته، قاست الممرضة درجة حرارتها، وجس الطبيب نبضها…وناول الأب وصفة دواء عليه إحضاره من الصيدلية المجاورة للمستشفى …وعاد إلى الطبيب يلهث، وقد حمل كيس الدواء، وسأل الطبيب : “خير يا دكتور” ربت الطبيب الشاب على كتفه وطمأنه : “الحمد لله، درجة حرارتها تنخفض بعد إسعافها. وبعد نتيجة التحليلات، سنعرف العلاج اللازم!” ثم ناوله ورقة أخرى، عليه أن يختمها في إدارة المستشفى.
وأمام الشباك، طلب منه الموظف أداء مصاريف العلاج، تحسس الدريهمات المتبقية في جيبه، وانهمرت دموعه قبل أن يجيب الموظف، أقسم للموظف أنه لا يملك إلا ثمن المواصلات للعودة إلى قريته…وأنه فقير لا يملك شيئا…فأشار عليه الموظف أن يحضر شهادة احتياج. “وما هي شهادة الاحتياج؟!” تساءل أبو زهرة، فأجابه الموظف : “يعني شهادة تثبت أنك فعلا فقير…وتسمى أيضا شهادة ضعف”.
كان الليل قد أطبق بجناحيه السوداوين على القرية حين عاد أبو زهرة. وفي ضوء القمر، تراءى له جسد أم زهرة النحيف على مصطبة أمام الباب. انتفضت الأم لعودته وحيدا، والدموع تنهمر من عينيها، وقد تحشرج صوتها …فطمأنها وهو يخفي حزنــه :
- لقد حجزت سريرا لزهرتنا في المستشفى، وهي تتماثل للشفاء!
كان ليلا طويلا،لم يغمض له فيه جفن، تقلب في فراشه وهو يناجي ربه…
وعند الغلس، ذهب إلى شيخ القرية محملا بالدجاج والبيض، ليسلمه شهادة الضعف… ناوله الشيخ الورقة وهو يقول :”لو لم تساعدني دائما في الحرث والحصاد، لما أعطيتك هذه الشهادة، دون مئة درهم!”.
تفحص الشهادة وكأنه حصل على كنز ثمين، لكن، عليه أن يقطع ثلاثين كيلومترا ليصادق عليها في الإدارة.
التقط أنفاسه وهو يزج بجسمه المنهك في طابور طويل، ويمسح بكمه قطرات العرق المتصبب من جبينه تحت لهيب شمس الصيف… أطلت موظفة من نافذة وقالت : “السيد الرئيس في اجتماع!” وأغلقت الإدارة أبوابها.
مر اليوم واليومان وهو في الطابور، وسأل آخر يقف أمامه : “كل يوم اجتماع، ماذا يفعلون في هذه الاجتماعات؟ وهل يجتمعون أكثر مما يعملون؟!”
كاد يطير فرحا حين حصل على شهادة الاحتياج بعد انتطار ثلاثة أيام… سيبشرزهرة أنها ستعالج مجانا….لكنه وجد سريرهافارغا، وصار يحدث نفسه بصوت عال : “قد يكون الطبيب قد نقلها إلى مكان آخر…أو….”. ضغط الطبيب على كفه قائلا : “إنا لله وإنا إليه راجعون” دارت به الأرض، وكاد يصرخ، غير أنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وسار خلف الطبيب وهو يردد : “إنا لله وإنا إليه راجعون”، وبكى كما لم يبك أبدا.
وفي مستودع الأموات، طبع على وجنة ابنته الباردة قبلة وداع… فقال له موظف مستودع الأموات :
“عليك الأداء حالا أو تسليم شهادة الضعف لتسلم جثة ابنتك لدفنها”. تهلل وجهه الحزين، وأخرج الشهادة من جيبه وسلمها للموظف… تفحصها هذا الأخير، هو يقول :
- هذه شهادة ضعف للتطبيب، وعليك إحضار شهادة ضعف أخرى للوفاة!