فأقول هذا العنوان الذي هو: معالم الآيات المشرقة في تزكية النفوس المستشرفة أو المشرفة. المستشرفة معناه:أن كل نفس في داخلها استشراف من أجل أن تطل على الإشراقات التي تشرق بها آيات ربنا، كل نفس. إلا أن هناك من سمح لهذا الاستشراف الداخلي، الذي طبع الله عليه النفوس، وفطر عليه كل فطرة، هناك من يسمح لهذا النوع من المشاعر أن يتفجر، ولهذا النوع من الاستشراف أن يستشرف فعلا. وهناك من يكبت ذلك كبتا، وهذا هو الفرق. كل عباد الله، كل البشر. كل البشرقد فطره الله على الاستشراف، لكن هناك من سمح للاستشراف أن يخرج، وهناك من كفره. ومن ثم سمي أولئك الذين لم يسمحوا للاستشراف أن يظهر ويبرز سموا كفارا، لأن الكفر في اللغة هو الستر. فهم يسترون هذا الشعور الذي يراودهم مرة بعد مرة، ألا فاسمحوا لي أن أخرج:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
فأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
فليس لهم حتى النشور نشور
روح موحشة تريد أن تنطلق، أن تنطلق إلى عالم التزكية. هذ العالم، هذا الفضاء الواسع الذي تراه في الوجود كله. تراه في الوجود كله:تراه في نفسك، وفي من حولك: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
إذن أذكر هذه العناصر بعجالة فأقول:إنني تأملت في هذه المعالم لأختصرها وأعتصرها، فجعلتها في خمسة معالم لكل معلم خمسة تجليات:
- المعلم الأول: معلم التطهر؛ وتجلياته خمسة:
1 – حراسة القلب من ورود الشبهات.
2 – حمايته من تسرب الشهوات.
3 – مراقبة ما يجول فيه من الخطرات.
4 – حفظ النظرات.
5 – زمام الخطوات.
- المعلم الثاني: معلم التصور؛ وتجلياته خمسة:
1 – التجرد.
2 – التفرد.
3 – التوحد.
4 – التعهد.
5 – التعبد.
- والثالث: معلم التدبر؛ وتجلياته خمسة:
1 – اليقين بأخباره أي اليقين بأخبار القرآن.
2 – التحلي بجمال وعده .
3 -التكمل بجلال وعيده.
4 – رسوخ العلم بمتشابهه.
5 – التكامل بين متشابهه ومحكمه.
- المعلم الرابع: معلم التفكر؛ وتجلياته خمسة:
• تلاقح التدبر بالتفكر المنشود.
• شهود كلمات الله التامات السارية في الوجود.
• مشاهدة أسماء الله الحسنى في كل موجود.
• التناغم مع السنن الكونية في كل مشهود.
• إدراك تعانق السنن الكونية والشرعية في كل موجود.
- المعلم الخامس: معلم التنور؛ وتجلياته خمسة:
1 – نحت مشكاة في الصدر لإيقاظ مصابيح القرآن.
2 – انقداح نور الفطرة الكامنة فيها ليتكامل فيها النوران.
3 – صقالة زجاجة القلب لإبراز شفافية العرفان.
4 – استعداد القلب لتلقي الإمداد من شجرة الوحي ذات الفنون والأفنان.
5 – العروج بالروح من حيز الشرقية والغربية لتطوف حول عرش الرحمان.
وهذا كله مقتبس من آية النور كما تلاحظون. تلك إذن هي المعالم الخمس، وهذه خمس وعشرون من التجليات، لكل معلم من هذه المعالم خمس تجليات.
المعلم الأول: معلم التطهر:
وكل هذا مقتبس من القرآن تزكية وهو نتيجة تأمل وتدبر في القرآن الكريم لاستخراج هذا المنهج التزكوي من كتاب الله تعالى، لنخط لأنفسنا منهاجا تزكويا نحاول أن ننزله على أنفسنا، وأن نحاول أن نزكي به من حولنا. لأننا عندما نتحقق بالتزكية نستطيع أن ننشر التزكية في أمتنا وفي عالمنا. وكل العالم يحتاج إلى هذه التزكية التي ترد له الاعتبار، وترجعه إلى أصله… ترجعه إلى أصله ليحس ويشعر بوجوده ووجدانه حتى لا يكون هناك انفصام وانفصال في الوجود والوجدان، وهذه هي آفة العالم اليوم. هذه الانفصامية النكدة التي تعيشها الدنيا اليوم، والإنسان متقطع متمزق. والأمة اليوم مدعوة لتنشر منهاج التزكية في أنفسها حتى تثق فيها الأمم الأخرى، عندما ترى التزكية في الأمة متجلية بأنوارها، ومتجلية بورودها الزكية تشم من بعيد قبل أن تراها، فكيف إذا رأيتها؟ العالم اليوم يشم رائحة التزكية بعطرها الفواح، وبمسكها الأذفر في أمة تنقت وتطهرت وتزكت فأصبحت طاهرة مطهرة منقاة تحمل هذا الطهر، الذي ينقي كتاب الله قلوبها وعقولها ومواجيدها ومشاعرها من هذه اللوثات التي لا تستطيع أن تقف أمام منهج التزكية حين يتجلى، اللوثات كلها إنما مثلها كما قال ربي جل وعلا: وأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وترون هذه الآية جاءت من بعد آية تؤسس لقضية التزكية: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰإِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (الرعد: 17-20)، هنا وهناك، عقبى الدار هنا، وعقبى الدار هناك، ليس هناك فحسب إنما هنا أولا، جناية الثمار هنا، وجناية الثمار هناك.
- التطهر تجلياته الخمس:
أ – حراسة القلب من ورود الشبهات:
وما أكثر الشبهات في زماننا اليوم، وأنت الذي تحرس قلبك من ورود هذه الشبهات، وفي القرآن ما يملأ قلبك يقينا. وإذا امتلأ القلب باليقينيات، لا تستطيع الشبهات أن تجد سبيلا إلى قلبك، لأنك ملأت قلبك بيقينيات القرآن: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (البقرة: 4)يعلمك القرآن كيف تحرس قلبك من الشبهات كلها حتى تصير أنت الذي تَنْقَضُّ على الشبهات، وليست الشبهات هي التي تنقض عليك لأنك ذلك الجبل الراسخ الثابت، الذي إذا أتت الشبهة إليه تحاول أن تنطحه فإذا بقرونها تتكسر، وتعود الشبهة إلى الوراء، ويبقى الجبل جبلا. لماذا؟ لأنك قد حرست قلبك من أن تدخل إليه شبهة من الشبهات. فأنت، إذن، الذي تنقض على هذه الشبهة. قيل لأحد العلماء:”ما لذتك؟”، قال:”في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتبخر افتضاحا”. هذه هي أمتنا، هذا هو منهجها، ليست لها قابلية لورود الشبهات، لأنها أمة الحق، بل كتابها يحدثها ويقول لها : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون (الأنبياء: 18)، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (الإسراء: 81) إن الباطل كان..، كان محكوما عليه.
لكن أنت الذي يتجلى فيك هذا، القرآن لا بد له من جوهر وذات يتجلى فيها، فأنت صاحبها. إذن عليك بحراسة القلب من ورود الشبهات، وحمايته من تسرب الشهوات.
ب – حمايته من تسرب الشهوات:
عندما تحمل قلبا تتنزل الآيات الكريمات إلى سويدائه فتسكن لأن فيه قابلية التلقي. والتلقي لا يكون إلا بعد الترقي، والترقي لا يكون إلا بعد التنقي، تنقيت فترقيت فتلقيت وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (النمل: 6). وإذا بالآيات تتسرب إلى هذا القلب وتتشربها، لأن الآيات لها تسرب وتحتاج منك إلى تشرب، فهل قلبك مثل الإسفنج المليء بالطيب والعطر، لا يقبل إلا طيبا وعطرا أم مثل الإسفنجة الأخرى التي لا تقبل – أكرمكم الله – إلا الأنجاس والأرجاس ؟ فإما هذا، وإما هذا. فهذا القلب الذي أصبح مرتبطا بالآيات، تتشرب سويداؤه هذه الآيات، وتنساب إليه كالماء الذي يتنزل من فوق إلى أسفل ليملأ هذه الأحواض القابلة لما يتنزل فيها من مياه سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (الأعراف: 146)، وعكسها أن القلوب التي تقبل آيات الله، تتنزل فيها الآيات، وتتسرب إليها تسربا، فتتشربها هذه القلوب فلا محل للشهوات ولا الشبهات؛ وهما مرضان يطوفان حول القلب: مرض الشهوات، ومرض الشبهات. وبهذه الحراسة والحماية تحمي قلبك من ورود الشبهات، ومن تسرب الشهوات.
ج – ثم كذلك، مراقبة ما يجول فيه من الخطرات:
الخواطر التي تجول في القلب مثلها كمثل جهاز الرصد، جهاز الرصد الذي يرصد ما يطوف حوله. فإن كان جهاز رصدك لا يرصد إلا الطيب والعطر، وإلا الكلام الطيب، وإلا الخير، وإلا كلمات رب العالمين سبحانه وتعالى، استقرت هذه الكلمات في سويداء القلب، وانتشرت فيه أيما انتشار، وانغرست فيه أيما انغراس حتى تصبح شجرته شجرة مباركة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. إن هذا التجلي الذي هو تجلي الخواطر من أهم ما يساعد على التزكية، ومن أهم عناصر التزكية. كان لعلمائنا رحمهم الله تعالى مع هذا العنصر، وهذا التجلي شأن وأي شأن، فهذا الإمام ابن الجوزي له كتاب سماه “صيد الخاطر” ولو قرأتم هذا الكتاب لتعجبتم، كيف يصطاد هذا العالم هذه الخواطر الربانية، ولا تجدها ممزوجة بأي شيء مما تعافه القلوب، لأن القلب قد أصبح يشتهي هذه الخواطر الربانية، ويعاف تلك الخواطر النجسة القذرة. لأنه قد عوفي من الأمراض، فلما عوفي من هذه الأمراض أصبح لا يشتهي إلا ما يأتيه من الله جل وعلا، ومن الملك. أصبحت له نفس مطمئنة تتلقى من ربها سبحانه وتعالى تلك الخواطر التي تنبع من النفس الطيبة الكريمة، وتنبع من الملك الذي هو حولها يسير معها يلقي فيها إلهام الملائكة، حتى أصبح هذا القلب ملهما في كل أحواله، وعلى كل أحيانه. وابن القيم رحمه الله له كتابان سجل فيهما خواطره:الكتاب الأول سماه “الفوائد”، والثاني أبدع منه سماه “بدائع الفوائد”، وهذا في علمائنا كثير، وفي طلبة العلم كثير. لأن القلب قد طاب، والعقل قد طاب فلا يسجل إلا ما يدور من الخواطر الطيبة الكريمة.
د – ثم كذلك حفظ النظرات:
وما أدراك ما حفظ النظرات، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني أن العلم نور
ونور الله لا يهدى لعاص
وحكي عنه أنه قال: “كنت لا أسمع شيئا إلا أحفظه”، ولا يرى شيئا إلا حفظه، وكان إذا دخل إلى السوق يسد أذنيه خشية أن يسمع كلام الناس فيحفظه. ولكنه يحكي عن نفسه أنه مرة نظر إلى ساق امرأة فقط، فإذا به يحس بأن حافظته أصبحت تتقلص، وتضعف. فلما شكى إلى شيخه وكيع أرشده إلى قضية حفظ البصر كما في الأبيات السابقة.
هـ – زمام الخطوات:
أن تزم خطواتك، فإذا استطعت أن تزم خطواتك، فذلك باب من الأبواب التي تسد عليك الشبهات، وتسد عليك الشهوات، وتصبح عند الله تبارك وتعالى أطهر وأنقى وأزكى.
فهذه هي تجليات التطهر، أما تجليات التصور، ففي الحلقة الثانية القادمة.
(يتبع)
الشيخ عبد الله بلمدني
—————————
أصل المقال محاضرة ألقاها الشيخ عبد الله بلمدني ضمن أعمال الملتقى الوطني الرابع عشر للقرآن الكريم الذي نظمه المجلس العلمي المحلي لعمالة مكناس في موضوع “القرآن الكريم وتزكية الإنسان” يوم السبت 17 صفر 1440 الموافق ل 27 أكتوبر 2018م.
جريدة المحجة مجلة قيمة ومواضعها مفيدة جزاكم الله كل خير
بارك الله فيكم ونفع بكم
قال الإمام الشافعي رحمه الله في ديوانه:
إليك إله الخلق أرفع رغبتي
وإن كنت يا ذا المن والجود مجرما
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وجزاكم الله خيرا على كل ما تفضلتم به من عظة وبيان …