هوية الأمة إنما هي تلك القواسم المشتركة من المبادئ العليا والقيم الفاضلة بين أفرادها ومكوناتها التي تجعلهم يشعرون بأنهم ذات واحدة تاريخيا وحضاريا يحملون شعورا جماعيا واحدا وتصورا دينيا موحَّدا وموحِّدا ومبادئ أخلاقية وثقافية مُوَحَّدة وتصرفون وفق ذلك في الخاص والعام.
ولقد ظلت شعوب العالم الإسلامي وأممه تعتز بهويتها الإسلامية الجامعة لمكونات الأمة المتنوعة ولم يكن اختلاف لغات قبائلها ولا تباعد شعوبها ولا تباين عاداتها ولا تفاوت فئاتها الاجتماعية عائقا دون الشعور والاعتزاز بالانتماء لهذه الهوية التي ضمنت للأمة قوتها وأطلقت عنان أبنائها في الإبداع الفكري والإسهام الحضاري والديني من غير شعور بعقد النقص ولا التعصب العرقي الضيق. ولم تقدر أمة على صيانة مقوماتها وهوية شعوبها في ظل هوية جامعة حافظة للمكونات الفرعية الجزئية مثلما كان الأمر في التاريخ الإسلامي.
غير أن فترات الضعف التي لحقت الأمة الإسلامية في فترات معينة ولأسباب عدة انعكست سلبا على تماسك شعوبها وأسهمت في تمزق كياناتها؛ وليس هناك مجال تضرر أكثر مثلما تضرر جهاز الهوية إذ هو في جسم الأمة بمثابة جهاز المناعة المكتسبة.
ولقد تفاعلت عوامل الضعف الداخلي للأمة مع عوامل التدخل الاستعماري في تعميق هذا الجرح وتجلى ذلك في مظاهر سلبية عديدة منها:
- فكريا: التمكين لتيارات فكرية دخيلة ومذاهب غربية داخل تربة الهوية الإسلامية مما أحدث شروخا عميقة بين أبناء الأمة وقَسَّمَ العالم الإسلامي تقسيما شذريا باعد كثيرا بين شذراته.
- سياسيا: أصبح المشهد السياسي للأمة تتنازعه توجهات ذات قناعات فكرية و”أيديولوجة” مستوردة عمقت العداء لكل ما يمت بصلة إلى هوية الأمة الإسلامية ومقوماتها الحضارية.
- اجتماعيا: صار العالم الإسلامي نهبا للفراغ الفكري والتربوي ولتحكم الوسائل الإعلامية الضخمة ولنظم التعليم المعاصرة المستوردة التي أوكلت إليها مهمة ضخ كل القيم الوافدة من غير تمييز بين المناسب وغير المناسب.
وأمام هذه المظاهر ووسائل تنفيذها الضخمة طفح على سطح الممارسات العملية والسلوكات الفردية والجماعية ما يناقض الهوية الحضارية ويعاندها في الفكر والاعتقاد والتصرف بين العباد، والذوق الحضاري في اللباس والعمارة، والعادات الاجتماعية كالاحتفال بأعياد لا أصل لها في هوية الأمة الإسلامية ولا يصح أن يُدفع أبناؤنا بشتى الوسائل للاقتناع بها بالإغراء وممارستها بالإغواء والتشجيع بكثرة المدح والإطراء “الانفتاح الحضاري” و”المشترك الإنساني” التي صارت اليوم دعوى لا ضابط لها، وشعارا يمزق الهوية الخاصة بالأمة رغما عن الجميع.
إن الأمة الإسلامية وهي تعتز بفرادة هويتها الجامعة وتفتخر بنموذجها في التنوع الثقافي والحضاري تعتز أيضا بنصاعة انفتاحها على غنى التجارب الأممية الأخرى التي أتقنت الأمة فن التعامل معها أخذا وعطاء، قرضا واقتراضا، من غير أن يكون لذلك أثر خادش في هويتها الحضارية.
إن ما تعانيه أمتنا اليوم من أمراض في جهازها السياسي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي إنما هو مجرد أعراض لمرض عميق هو مرض جهاز المناعة المكتسبة في هويتها فهذا المرض هو الذي يعوق كل أشكال تفاعلها الإيجابي مع داخلها ومحيطها الحضاري الخارجي.
وعليه ولكي تعيد الأمة هذا الجهاز لفاعليته الحقيقية عليها أن تعتني الاعتناء اللازم بصيانة هويتها من خلال مدخل إصلاح نظام التعليم والإعلام وتهيئة الحياة الاجتماعية والأسرية والمؤسسات العامة والذوق الاجتماعي العام، وهذه المجالات لا ترقى إلى اكتساب المناعة الحافظة للهوية الإسلامية والحضارية إلا بتربية شاملة عاجلة، ومبادرة عازمة حازمة، وإرادة فردية وجماعية في الإقدام الشجاع من أجل التعجيل بتحصين ذاتنا وتأهيل أبنائنا تربويا وفكريا للإسهام في تثبيت هويتنا وتعزيز قيمنا الحضارية الفاضلة والاعتزاز بها اعتزازا بانيا للذات الحضارية ومسهما في إغناء التفاعل الإنساني النافع وهي الرسالة التي أناطها الله تعالى بالأمة رسالة الشهادة على العالمين: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون (آل عمران: 110)، والقيام بهذه الرسالة وهذه الأمانة لا يتم إلا يوم تنهض الأمة بهذا الواجب وتخصه بالعناية الكافية لإعداده الإعداد الجيد وتكوين القائمين به وعليه تكوينا راشدا قال تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (آل عمران: 104 – 105).