-1 من وسائل التربية : السمو بالغرائز وتوجيه الطاقات :
كنت تحدثت عن أمر خاص هو التنفيس عن الطاقات والتفريج عنها فيما يُناسب توجه الشريعة الاسلامية. وبينتُ أن الإنسان له طاقات ومواهب وقدرات وحاجات وضرورات تتطلب الإشباع، وإشباعها في غير الإسلام طبعا لا يكون إلا عن طريق فوضوي، على طريق يؤدي إلى تدمير الإنسان، لكن حينما ننظر إلى هاته الطاقات من زاوية الشريعة الإسلامية وزاوية التوجيه الإسلامي، يمكننا أن ننفس عنها وأن نجد لها مكانها ولكن بما يحفظ للإنسان شخصيته المسلمة.
-2 الإسلام لا ينكر غريزة الجنس ولكن يوجهها توجيها يخدم مصلحة الفرد والمجتمع :
فغريزة الجنس لا يمكن إنكارها والإسلام لم ينكرها ولكن حدد لها مصارفها وقنواتها، من غير أن يؤدي ذلك إلى الفوضى أو اختلال التوازن المُفسد للنسل. فليست كل علاقة جنسية علاقة مقبولة، بل العلاقة المعترف بها هي التي تتم داخل عقد شرعي تنبني عليه آثاره ونتائجه، أي هناك حالة واحدة يمكن للإنسان أن يلبي فيها داعي الجنس وهو أن يتزوج زواجا شرعيا فقط، وما سوى ذلك لا يمكن القبول به، ولا يمكن أن يُسَالََم، تحت أي غطاء كان، أي العلاقة الوحيدة المسموح بها هي علاقة الزواج أما اتصال الفتى بالفتاة تحت غطاء، التفتح على الجنس الآخر، أو إزالة العقدة، أو التعرف على الآخر، أو الزمالة في الدراسة، أو الزمالة في الفن، وما إلى ذلك، كُلُّ ذلك علاقة مرفوضة من الناحية الشرعية، فيبقى أن الذي يرتبط بامرأة بواسطة العقد الشرعي هو الذي يحل له الاستمتاع بها على أنها زوجته وما إلى سوى ذلك فإن المرأة حرام على الرجل، كما أن الرجل حرام على المرأة لأن الأصل في الفروج هو الحِرْمة حتى يأتي المُحَلّل وهو العقد الشرعي. والإسلام لا ينكر حب الجمال ولكنه يرشده إلى الجمال الحقيقي : جمال الروح، جمال الصدق، جمال التفكر.
حُبُّ الإنسان للجمال شيءٌ فطريٌّ فيه ولكن يجب أن يُرفع هذا المعنى ليتعلَّقَ الإنسان بالجمال المعنوي، بجمال الفضيلة، بجمال الأخلاق السامية، بجمال الصدق، بجمال المروءة، جمالات كثيرة يغفل الناس عنها.
ليس الذي يحب الجمال هو الذي تسْتوْقفه منظر وردة جميلة، أو منظر بُحَيْرة صافية، أو منظر وجه حسن فقط، بلْ هناك جمالٌ يحتاج إلى غَوْصٍ، يحتاج إلى تتبع، يحتاج إلى قلوب كبيرة، قلوب واسعة، وإلى عقول عظيمة، من أجل أن تَكتشف هذا الجمال، فأنت مثلا حينما ترى الناس يَصلون إلى المراتب العليا بالدجل والنفاق، وبالتهريج وبتبديل المواقف، وبالتملق وبمسح الأحذية -إذا كان فيك تذوق الجمال- يجب أن تستشعر دناءة هؤلاء وحقارتهم ولو أنهم في المناصب العالية، لأنهم فعلا يمثلون الحقارة والذمامة، ولكنك حينما ترى الإنسان العادي الذي تقتحمه العين، ولكنه جبلٌ في موقفه، تراه شامخا لا يتبدل، لا يتلجلج، لا يتأرجح، لا يتزحزح عن الحق ترى جمالا آخر، وتحب جمالا آخر، فيعتبر هذا حبّاً للجمال، ولكن أي جمال، إنه جمال معنوي يجب أن يعود عليه الإنسان ويُرَبَّى، نعرف جميعا كيف يتقلب الناس كيف يصبح الرجل مؤمنا ويُمْسي كافراً، كيف ينتقل من هنا إلى هناك، كيف يبدِّل المواقف، كيف يتعملق، كيف يتحدى، ترى كل هذا، ولكن يجب أن يبقى فيك إحساس بالجمال الحقيقي وإحساس بالقبح الحقيقي، فحب الجمال الحقيقي هو حُبُّ الخير والخيِّرين، وكُره القبح الحقيقي هو كره الشر والشريرين، الإنسان بطبيعته يكره ولكن إذا لم يُدَرَّبْ، وإذا لم تُصْقَل موهبته فربما يكره المؤمنين وربما يكره الخير، ويحب في المقابل الفساد وبالتَّرْبية يجعل كرهه كله للكفر والكافرين، وللشيطان، وللظالمين والمفسدين في الأرض، حين ذاك تصير عاطفة الكره فيه قد صارت عاطفة إسلامية أي قلبه يكون إسلاميا، لكن في بعض المرات ترى هذا الحب لا ينضبط فترى الإنسان يحب رجلاً أو امرأة معدوديْن في سقط المتاع، ومرفوضين شرعا، رجلاً من المفسدين أو من قليلي الدين مقل مغنٍّ مُفْسِدٍ تُسَلَّطُ عليه الأضواء فتتعلق به الأنفس، أو مغنية ساقطة مائعة ترتبط بها القلوب لكثرة ما يُسَلِّط عليها الإعلام من الأضواء، بينما أناس خدموا الإسلام، وخدموا الشريعة الإسلامية، وخدموا هذا الدين ربما نبغضهم وهم أولياء الله وهم أناس صالحون مخلصون، لأن وسائل الإعلام والإشاعة قَبَّحَتْهُ جميع الطاقات يجب أن توجه لأجل أن يبقى الإنسان مؤمنا فالإسلام لا يكبت طاقة، ولكنه مع ذلك لا يطلق طاقة من الطاقات على عواهنها وإنما يضبطها ويرشدها ويجعلها تمضي إلى الاتجاه الذي يجب أن تمضي إليه.
هذا الأمر أساسيٌّ في التربية ويجب أن نُعنى به، إن شبابنا لا يجب أن نكظمهم أو نحبسهم أو نضيق عليهم اعتقادا أن هذا هو الإسلام، لا، يجب أن نمكن كل طاقةٍ من التفتُّق، يجب أن نراعي مواهبهم، حاجاتهم من اللعب من الاستراحة من الاستجمام، من النظر إلى الأشياء الجميلة، ولكن لا نتركهم يَفْعلون ما يشاؤون، بل نوجه كل شأن من شؤونهم وكل طاقة من طاقاتهم حتى تَشْتَدَّ وتمضي على الطريق القويم.
-3 التربية بالأحداث من وسائل التربية الإسلامية :
هناك وسيلة أخيرة وهي التربية بالأحداث وبالوقائع : إن النفس تمر عليها حالات قد تكون في بعضها لينة متقبلة للخير متقبلة للموعظة متقبلة للنصيحة وقد تمضي عليها حالات من الجفاء والبعد عن الشرع تكون قَصِيَّة وبعيدة عن الدين، ومن جملة الحالات التي تكون النفس فيها مستعدة لأن تسمع وأن تتوب هي حالات الإبتلاء ببعض التجارب وببعض الوقائع، هاته الوقائع تمر بالناس، فالأذكياء يقفون عندها ويُحَلِّلُونها ويستخلصون منها العبر والدروس، والمغفلون تمر بهم الأحداث متلاحقة لا يقفون عند أي شيء، ولا يستفيدون من أي شيء، كتاب الله الذي هو المنهج لا يترك حادثة من الحوادث تمر إلا ويقف عندها، ونفس الأمر نجده في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا هو ابن اللُّتْبِيَّة ليجمع له مال الزكاة يلجأ بعض الناس إلى المراوغة فيعطون له شيئا من الزكاة التي وجبت ويعطونه شيئا يُتْحِفُونَهُ به على أنه نافلة فيقولون له : لقد وجب لك كذا وكذا من الغنم فها هي، وهذه شاةٌ فخُذْها لك، وأنت رجل فقير تستعين بها، فيحسب الزكاة ويحسب الذي أُعْطِي له، ثم يجمع ذاك إلى ذاك ويسمع الناس أن فلانا أعطى الزكاة وزاد شيئا لجابي الزكاة فينشأ ذلك عندهم عادة وعُرفا، وفي السنة المقبلة لابد أنجابي الزكاة سيأتي وفي ذهنه أن فلانا في الماضي أعطاه كثيرا وأن الآخر إنما أعطاه الزكاة فقط فلا شك أن قلبه سيكون أميل للذي أعطاه الكثير وبالتالي ربما خفف عنه وهو يختار ما يجب عليه، ربما أخذ منه الشاة الهزيلة، وربما جامله فأخذ ما هو أقل من الواجب، فحينما جاء الرجل ابن اللُّتْبِيَّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس هذا لكم وهذا أُهْدِي إلي، هذا أُعْطِي لي هدية ومجاملة وحُلْوَانا وإكراماً لي فدَعُوه لي، فحينئذ عالج النبي صلى الله عليه وسلم الموقف حيث صعد فوق المنبر وقال ((مالي أبعث الرجل فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، فهَلاَّ جلس في بيت أمِّه فيرى إن كان يُهْدى له شيء، أي لو كان هذا صحيحاً لأعطى الناس هذا الرجل وهو في بيت أمه ماداموا قد أعطوه وقد جاءهم جابيا، أي أعطوه ما أعْطَوْه تمهيدا لرشوة، أو إنها رشوة، فلذلك حسم الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه هذا، وحفظ الصحابة ذلك الأمر وانتهت المشكلة، إذن حينما وقع الحدثُ عالجهُ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان حدثا قد طرح أسئلة كثيرة على عقول الناس، وطرح استفسارات كثيرة فأجاب عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ الناس الحادث وبَلَّغوه للأمة الاسلامية للإقتداء.
في كتاب الله مرت بالمسلمين أحداث ومواقف متعددة وصدرت من المسلمين أخطاء وكانت لها نتائج وخيمة، ووقف عندها كتاب الله عز وجل ليحاسب وأهمُّ حدثِ وقع للمسلمين هو انكسارهم يوم أحد، ومع غزوةِ حُنَيْن وغيرهما ليثبِّت المسلمين ويبيّن لهم أن الحق حقٌّ والباطل باطل، وأن للنصر شروطا إذا أخل بها المسلمون انهزموا ولو كانوا يمثلون الحق، فكان لابد من معرفة السبب، فبيَّن الله عز وجل أن حُبَّ الدنيا هو الذي جعل الرماة يعصون الأوامر فقال تعالى : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَة}(سورة آل عمران) إذن هذا سبب الهزيمة ولم يقل لهم كما نقول نحن : كل هزائمنا انتصارات، كما وقع لنا مع اليهود حيث قالوا النصر الذي تحقق للعرب كان انتصارا عظيما لا يخفى، لماذا؟ لأن الزعيم بقي حيا وعلى رأس السلطة لأن اسرائيل كانت تريد أن تسقط الرئيس لكنها لم تنجح في ذلك ولذلك بقينا نحن منتصرين مادام الرئيس موجوداً؟، وفي المدة الأخيرة لم ننهزم قط، نحن دائما منتصرون وعدونا هو المنهزم وإن أخذ أراضينا واستباح حِمَانا ومع ذلك هو المنهزم لأنه لم يحقق الغرض الكبير. كتاب الله لا يُجَامِلُ وسمى هذا هزيمةً، وقف مع غزوة أحد، فهذه أخطاؤنا نعاقب عليها، ولكننا على الحق، فلا نتصور أن الكافر إذا ظهر علينا يوما أنه صار على الحق. {ولاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(سورة آل عمران).
فكتاب الله هو الذي أصّل تحليل الأحداث ومقارنة الوقائع والخروج منها بدروس وعظات، والإسلام يدعو الناس لأن يكونوا محللين للوقائع، وأن يقرأوا التاريخ جيداً، ويحسنوا المقارنة بالأشياء ليخرجوا من ذلك بدروس وعِبَرِ.
نحن الآن في مجال التربية تقع لنا أحداث وهي في عصرنا هذا أحداث متسارعة متوالية متعاقبة، فإما أن هذه الأحداث لا يُعَرَّجُ عليها بالتحليل أبداً، وإما أن الذين يتولَّوْن التحليل أناس ليسوا على دين مَتِينٍ فلذلك لا يستطيعون الخروج منها بأي درس، ولعل أمتنا لم تمر بَعَصْر تتوالى فيه الأحداث مثل عصرنا هذا، ففي كل يوم جديد يرشد إلى ما يجب أن ننْتَبه إليه، لكن الذين يحللون غير موجودين، أو الذين يحللون لهم طرق معكوسة في التحليل وهذا تجدونه في كثير من الجرائد والمطبوعات، وكثير من المرئيات، نحن إن تفحصنا الأحداث وقرأناها بعيوننا الاسلامية، بعقولنا الإسلامية، نستطيع أن نكتشف الأسباب الحقيقية للهوان الذي نحن فيه، للتفرقة التي نحن فيها، للجهل الذي نحن غارقون فيه، للفقر الذي يغطينا ويعمنا، للقحط الفكري والاقتصادي والنباتي والحيواني الذي يحيط بنا، لسيطرة صندوق النقد الدولي على مقدراتنا، لانتشار الاستبداد والدّعارة والتحلل والتّغرّب بين مختلف دولنا ومجتمعاتنا للاستغلال البشع الذي سرى في كياننا ورضينا به، إن الإسلام جاء فعلا لصالح الشعوب المستضعفة جاء ليكبح جماح هؤلاء المستغلين جاء ليوقفهم عند حدودهم لو كنا طبعا مسلمين.
إن هذه الفوضى في الجنس هذا التدمير في الأسرة، هذا الشذوذ الجنسي المنتشر في الغرب يدل على أن هذه الأمم محْتاجة إلى الإسلام ليعالج أمراضها، ويستأصل فسادها لو كان المسلمون يحسنون التأويل والاستفادة من الأحداث كما علمهم الكتاب والسنة.
فهل استفدنا من الانهزامات العسكرية التي شَلّت قدراتنا وجعلتنا نخر راكعين ساجدين لعدونا؟ هل استفدنا من الهجوم على المرأة بصفة خاصة، والأسرة بصفة عامة؟؟ هل استفدنا من الهجوم على الدين ورجاله؟؟ إن ذلك يحتاج إلى مومنين يحللون بقلوب ايمانية، ويقودون بالهدي الرباني.
د. مصطفى بن حمزة