عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((مَا مِنْ ثلاَثَةٍ في قَرْيَةٍ ولا بُدَّ، ولا تُقَامُ فِيهمُ الصَّلاَةُ إلاَّ قدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِم الشَّيْطَانُ فعَلَيْكَ بالجَمَاعَةِ فَإِنَّما يَأْكُلُ الذِّئْبُ القَاصِيَةَ))(رواه أبو داود والنسائي وأحمد).
العباقرة والعلماء وأصحاب الفكر الصحيح لا يستطيعون انجاز التغيير في الواقع من غير جماعة مؤيدة :
جاء في توطئة هذه الكلمة : صلى الله عليه وسلمان نظام الاستخلاف في الأرض لا يمكن أن يتغير ويتبدل بمجرد فرد صالح أو أفراد صالحين مشتتين ولو كانوا في أنفسهم أولياء الله تعالى بل ومن أنبيائهرضي الله عنه وهذه الحقيقة هي ما تؤيده آيات الكتاب العزيز فالله تعالى يقول لرسوله الكريم : ((هو الذي أيدك بنصره وبالمومنين))(الأنفال : 62) ويقول عز وجل أيضا : ((محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا))(الفتح : 48) ذلك أن مقتضى طبيعة هذا الدين، أنه من عند الله، وأنه نزل لجماعة، وأنه عمل في ذاته، وأن قوته في امتداده، وكل هذه العناصر هي في حقيتها سنن الفهم في الاسلام :(قدر الدعوة، ص 182).
- فمقتضى أن الدين من عند الله يجعل تقديم النص على الرأي سنة من سنن الفهم.
- ومقتضى أنه نزل لجماعة يجعل الجماعة هي سنة من سنن الفهم -يعني أن الامكانية- الكاملة لفهم الاسلام تكون من خلال الجماعة.
- ومقتضى أنه عمل يجعل العمل اساساً في الفهم.
- ومقتضى أن الدين نزل بالقوة يجعل الجهاد سنة من سنن الفهم الاسلامي لقول الله تعالى : ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا))(العنكبوت : 69).
وتعتبر سورة الصف من بين سور القرآن تحديدا رائعا لصورة العمل الجماعي الذي يهيء نفوس الجماعةلنصرة الدين على أساس من التدافع بين الحق والباطل حيث تبدأ الآية الثامنة فيها بقوله تعالى : ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون)) فالتدافع بين الاسلام والكفر هو محاولة اطفاء نور الله بالأفواه، وقنوات الكلمات الصادرة من الأفواه هي: الاعلام والصحافة بجميع أشكالها وصورها تتآزر فيها : الصوت والصورة والصحيفة والجريدة والمسرح والسينما والمؤلفات والمؤتمرات والمنظمات.. من أجل اطفاء نور الله؛ غير أن الارغامات والاكراهات التي تفزع هؤلاء وأولائك هو ما وعد الله به عباده المؤمنين في الآية بعدها : ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))، والمقتضى التكليفي لاظهار الدين وإعلاء كلمته ينادي الجماعة المؤمنة -ليس الفرد وحده- في الآيتين بعدها : ((يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تومنونبالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)) والاستجابة لهذا النداء تكفل للمستجيبين وتضمن لهم فوزاً عظيما حددته الآية التي بعدها : ((يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم)) إنه الثواب الآجل المرتقب، الذي يأتي بعد الثواب العاجل في هذه الدنيا ثواب الفتح القريب والنصر من الله ((وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المومنين))(الآية 13) فما على الجماعة إلا أن تكون واثقة بالله بنصرة دينه ليحقق لها النصر الموعود : ((يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصاراً لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين))(الآية : 14).
ومن هذا البناء المتكامل للصورة ندرك معنى الآيات الأولى فيها فنجدها تحديداً للشروط الواجب توفرها في هذه الجماعة وأولها : العمل بما نقول : ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون))(الآيتان : -2 3) ويكون الشرط الثاني : هو الجماعة المتراصة المتماسكة : ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص))(الآية : 4).
ويكون الشرط الثالث في هذا القتال : هو في سبيل الله، وليس من أجل عصبية أو قومية أو اشتراكية أو علمانية أو الحاد…
بيان تلبيس ابليس في صرف المؤمن عن الجماعة :
إن واقع المجتمعات الاسلامية لا يعوزه المصلون، ولا ينقصه المتدينون، وانما هو واقع ينقصه توجيه المتدينين إلى نواحي أخرى من نواحي التعبد، فبيوت الله غاصة بالمسلمين، غير أن الصلاة ليست هدفا في حد ذاتها بقدر ما هي وسيلة غايتها وقصدها الاساسي اصلاح المجتمع بالدرجة الأولى : ((اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون))(العنكبوت : 45).
- فما قيمة صلاة مؤمن يشرب الخمر ويتعامل بالربا ويأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن!!
- وما أثر صلاة جماعة مؤمنة ترى أعداء الاسلام يكيدون للمؤمنين كيداً ويسخرون من الذين آمنوا وهي لاهية غافلة شاهدة متفرجة كأنّ الأمر لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد!!
لقد روى مسلم في (المنافقين) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكنه رضي بالتحريش بينهم)) ومن هذا الحديث ندرك العلة من رضى الشيطان بالتحريش بين المصلين بعد اليأس من أن يعبدوه وهو أن الغاية التي ترضي الله هي الأمة الواحدة التي تعبد رباً واحداً، فلما يئس الشيطان من جعله المصلين لا يعبدون رباً واحداً انتقل إلى تضييع واقع الأمة الواحدة، فيتحقق بالتحريش منع ما يحقق رضى الله سبحانه بقيام الأمة الواحدة التي تعبد رباً واحداً، ومن أجل ذلك فإن على الفرد داخل الجماعة أن يعتبر نفسه مبلغا عن الله يقوم بوظيفة التبليغ لا بوظيفة الهداية لأنها من اختصاص الله عز وجل، وأول ما يشترط في المبلغ عن الله الصلاح بعد الإيمان، وكون المبلغ عن الله أداة صالحة؛ فإنها، قدراً، لا يجب أن تتجاوز حدود الأداة والسبب.
وسببية الدعوة الى الله تحمي الدعاة من ثلاثة أخطار :
-1 خطر الغرور إذا تحققت الاستجابة، والاعتقاد أن الداعية مجرد سبب في الهداية يحميه من هذا الشعور.
-2 خطر اليأس إذا كان الاعراض؛ لان الاعتقاد بالسببية يجعل الداعية يشعر أنه أدى ما عليه وأن الأمر بيد الله.
-3 خطر الخروج بالدعوة عن موضعها بملاحقة من لا يستحقون الدعوة، وإهمال دعوة من يستحقون الدعوة (قدر الدعوة، ص : 250).
وختاماً نسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، ويجمع شمل المسلمين على كلمة سواء، وألا يتخذ بعضنا بعضاً ولاءه لجماعة وتنظيم هدفاً وغاية وقصداً من دون الاعتصام بحبل الله جميعا ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا))(آل عمران: 103).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ذ. محمد بن شنوف