> المحجة : استاذنا الجليل وعالمنا المجاهد، اختارت المحجة إجراء الحوار معك في هذا الشهر العظيم، شهر رمضان، شهر الجهاد، لنقتبس منكم قبسات من المواقف الجهادية التي طبعت حياتكم كلها، خصوصا ونحن نعيش -سيدي- في عصْرٍ قد اتخذ فيه حكام شعوبنا السلم (الاستسلام) خياراً استراتيجيا، وأسقطوا كلمة (الجهاد) من قاموس الخطاب الإسلامي، حيث أصبح الرائج في أوساطنا : ثقافة السلام، حوار السلام، مناظرات السلام، فلسفة السلام، يقصدون بكل ذلك شيئا واحداً هو : التسليم لأعداء الإسلام بأن يفعلوا ما شاءوا في الأوطان الإسلامية، من قتل وتشريد، ونهب للثروات والخيرات، أما في الداخل فقد فرضوا على شعوبهم الحروب الضارية، حيث لا حقّ لهم في التعبير عمّا يمارسه حكامهم من مخالفات صريحة لمبادئ الإسلام التي لا تقبل التأويل ولا اختلاف عليها بين المسلمين، كالترخيص لبيع الخمور وتأسيس فنادق الدعارة، وبيوت القمار، والسماح بنشر الكتب والجرائد التي تنكر وجود الله تعالى، وتكتب ما يندى له الجبين من الخلاعة وأوصاف الفاحشة المدمرة للصحة والعرض والخلق.
< سلطان العلماء : ويَطِيبُ لكم ولعلمائكم العيش في هذا الجو المحارب لله ورسوله بدون أن تخشوا كوارث ماحقة تنزل عليكم من ربكم الذي تجاهرونه بالكفر والفسوق والعصيان؟؟
> المحجة : ماذا نعمل؟ شعوبنا جُهِّلت بالإسلام، ولُقّحَت بأمصال الكُفر العلمانيّ والحداثيّ حتى أصحبت لا تعرف معروفاً ولا تُنكر مُنكراً، أما علماؤنا الأحرار، ودعاتنا الأُباة فطحنتهم رحى الاستبداد والعزل والتشويه والتهميش والتفريق والإغراء، وكانت الضربة القاضيةُ تحكيم الشعوب التي لا تفرِّقُ بين الكُوعِ والبُوعِ في القضايا المصيرية، فهي التي تُستفتى في الدساتير وهي جاهلةتماما بشكلها ومضمونها، وتُستفتى في المجالس التشريعية وهي لا تدري ما مرجعية هذه المجالس، وما اختصصاتها،وما دورها، وما شروط مستشاريها، وما وجه الضرورة اليها، وما نصيبها من الإخلاص لقضايا الوطن، وما علاقتها بمراكز القرار الكفرية والنفاقية والدنيوية.. إن هذه الضربة للعلماء مَسَحَتْ (أولى الأمر) من قاموس السياسة الشرعية، ولِذَرِّ الرماد في العيون صُنعتْ مجالس علمية من علماء لا استقلال لهم في الأمر والنهي، ولا قدرة لهم على الصّدْع بالحق، ولا رابطة ربانية تجمعهم…
< سلطان العلماء : إذَنْ فأنا وأقراني من العلماء في بَطْن أرضنا خَيْرٌ منكم على ظهر أرضكم، فأنتم تستحقون أن يُبْكى عليكم ويُرثى لحالكم، حيث تعيشون سجناء على سطح الأرض وتحت أشعة الشمس، ما أمرّ عيشكم، وما أصْبركم على هذه المرارة؟؟!
> المحجة : هذا قدَرُنا، ونحن نعيشٌ على أمَلِ تَفجُّر صحوة إسلامية عارمة يطهّر الله عز وجل بها الأرض من كل الأرجاس والأوثان.
واسمح لنا يا أستاذنا، فقد شغلناك بهمومنا التي أراحك الله عز وجل منها، ونسيتُ أن أسألك أولا عن شخصك، فإن الكثير من قراء جريدتنا لا يعرفون بلدك وزمانك وأساتذتك وتلاميذك، فتفضَّل علينا رحمك الله تعالى بنبذة من حياتك.
< سلطان العلماء : يستحيي أمثالي أن يتكلم عن نفسه، ولكن للمصلحة العامة أقول باختصار : وُلدت بدمشق سنة ثمان وسبعين وخمسمائة 578 هـ في بيئة فقيرة، وتعلمت كما كان يتعلم الصبيان آنذاك، وحفظت القرآن، تم تعلمتُ على يد علماء كبار من مختلف العلوم، فتفقهت على يد فخر الدين بن عساكر، وتعلمتُ الأصول على يد سيف الدين آلامدي، وسمعت الحديث من الحافظ بن أبي القاسم بن أبي القاسم بن عساكر وغيره من كبار علماء الحديث.
وتخرج على يدي عدة علماء منهم : ابن دقيق العيد، وتاج الدين بن الفِرْكاح، وأبو محمد الدمياطي.
ولقد قصدتُ مصر -لأسباب خارجة عن إرادتي- سنة تسع وثلاثين وستمائة 639هـ وبها قضيتُ بقية حياتي إلى سنة ستين وستمائة هـ 660 هـ أرجو الله تعالى أن يغفر لي قصوري ويتقبل مني ما قدمتُه من أعمال في هذه الحياة ا لمديدة، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم.
> المحجة : لقد وجدنا الكثير من الكتب التي تكتب عن تلقُّبِك بسلطان العلماء، فمن أطلق عليك هذا اللقب؟
< سلطان العلماء : في الحقيقة أنا أرى نفسي دون هذه الألقاب التي يرغب فيها الناس ويتباهَوْن بها، ولذلك لم يكن لي دخَلٌ في هذا اللقب، وإنما العلماء الربانيون هم الذين تعارفوا فيما بينهم على تلقيبي بهذا اللقب لمزية يرَوْنها فيّ، وأرى نفسي دونها، وأرجو من الله تعالى أن يجعلني في مستواها أو فوقها. والفضل في هذا اللقب يرجع إلى الفقيه الأجلِّ ابن دقيق العيد، فهو الذي لقبني به، وتبعه العلماء في ذلك.
المحجة : جاء في كلامك أنك لم تخرج برضاك من دمشق إلى مصر، فما سبب خروجك؟
< سلطان العلماء : السبب هو أن حاكم الشام اتفق مع الصليبيين النصارى على أن يعينوه على محاربة الملك الصالح نجم الدين أيوب -حاكم مصر- وأعطاهم مقابل هذه الإعانة مدينة صيْدا والشقيف، وبعض حصون المسلمين، وبموجب هذا الاتفاق سمح لهم بالدخول إلى دمشق لشراء ما يلزمهم من السلاح والعتاد من المسلمين لمحاربة اخوانهم المسلمين بمصر، فسألني المسلمون : هل يجوز لهم بيع الأسلحة للنصارى وهم يعلمون أنهم سيحاربون بها إخوانهم؟ فأفتيت لهم بأن هذا البيع حرام، وأنهم محاسبون عليه أمام الله تعالى، وأعلنت ذلك على المنابر وعلى الملإ في مختلف الدروس وتركت الدعاء له في خطب الجمعة حتى يقف مسلسل الإفساد والتنازلات لأعداء الله مهما كانت النتيجة.
> المحجة : كيف قابل هذا الموقف منك؟
< سلطان العلماء : قابله كما يقابل كل حاكم فاسد مفسد المجاهرين بالحق، عزلني عن الخطبة والفتيا أولا ثم أغراني حيث أرسل لي أحد خواصِّه يعرض عليَّ الذهاب لسلطانه وتَقْبيل يده واستلطافه ليعيدني إلى ما كنت فيه وزيادة،..، فإذا لم أقبَلْ فالاعتقال ينتظرني.
> المحجة : ماذا كان الجواب منكم؟
< سلطان العلماء : وماذا تنتظرون مني أمام تصُرُّفاتِ حاكم فاسد مفسد خائن لله ورسوله وللمومنين وللأوطان الإسلامية كلها؟! قلت له :
والله يا مسكينُ، ما أرضاه أن يُقَبّل يدي، فضْلاً عن أن أُقَبِّل يده، يا قَوْم، أنتم في واد، وأنا في وادِ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، افعلوا ما بدَا لَكُم. وعندما لم أسْتجِبْ له اعتقلني في خيمة إلى جانب خيمة السلطان الخائن، فكان ذلك الاعتقال نعمة لي، حيث تفرغتُ للعبادة وتلاوة كتاب ربي الذي هو نعم الزاد في مثل هذه الخلوات.
> المحجة : يُقال إن السلطان أراد أن يظهر ولاءه وإخلاصه لأعداء الملة، فبَاهى باعْتِقالِكم من أجلهم ليتقاضى منهم أكثر، كما يفعل الحكام في عصرنا، يضربون المسلمينويتقاضون من الأعداء المقابل، حيث قال لهم : >تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن، قالوا : نعم، قال لهم : هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حَبَستُه لإنكاره عليَّ تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلتُه عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء القُدْسَ، وقد جدّدتُ حبسه واعتقاله لأجلكم<. فماذا كان جواب ملوك الفرنج له؟
< سلطان العلماء : من المفارقات العجيبة أن أعداء نا أعْقَلُ من خَوَنتِنا، فقد أجابوه بجواب يشبه الصَّفعة التي يستحقها كل خائن قالوا له : >لوْ كَانَ هَذاَ قِسِّيسَنَا لَغَسَلْنَا رِجْلَيْهِ وشَرِبْنَا مرَقَتَها<، على ما بلغني ووصل إليكم، وأظن أن أعْداءكم في عصركم لا يفْعَلون بعلمائهم مثل ما يفعل خوَنة المسلمين بعلماء المسلمين.
> المحجة : هذا صحيح يا شيخنا لأننا كذلك في وادٍ وهم في وادٍ، ونسأل الله عز وجل أن يجمع وادَيْنا ليُصبا معا في بحر الإسلام. ولكن يظهرأن حياتكم في مصر لمْ تَخْلُ كذلك من أزمات، فما هي أكبر الأزمات التي واجهتك؟
< سلطان العلماء : واجهتني كما قلت عدة أزمات، ولكي لا أطيل على قرائكم أقتصر على واحدة هي :
- أنني عشت بمصر حتى عاصرتُ حكاما مماليك، أي أن أصْلَهم عبيدٌ لم يُحرَّروا، ولكنهم أصبحوا ملوكا، يتصرفون في الشؤون العامة بما لا يقرهم عليه الشرع، لأن العبْد في الشرع هو وما ملك لسيده، وهؤلاء أصبحوا سادة وهم مازالوا أرقاء، فلكي أجعلهم يستقيمون مع الشرع، أفتيْت ببُطلان بيعهم وشرائهم ونكاحهم حتّى يتحرّروا عن طريق بيعهم وشرائهم بأثمانٍ تدْخُل إلى خزينة الدولة، لأنهم عبيد للدولة الإسلامية.
المحجة : ماذا كان ردُّ السلطان المملوك على هذه الفتوى؟
< سلطان العلماء : كان رده أن هذا الأمر من اختصاص السلطان وليس لعلماء الشرع أن يتدخلوا في هذا الأمر -ربما على عادة حكامكم أيضا الذين يفصلون بين الدين والدولة- وبناء على موقفه هذا حزمتُ أمتعتي للرحيل عن مصر، فخرجتُ من القاهرة قاصداً الشام، ولكن المسلمين المحبين للعلم والعلماء خرجوا ورائي يطلبون بقائي بين ظهرانيهم، فأصررت على السفر وعدم الإقامة في أرض يُهان فيها الشرع وعلماؤه.
وعندما بلغ الأمر للسلطان خاف على ملكه من وقوع ثورة عليه، فخرج بنفسه ورائي مُعْلنا لي أنه مستعد لتنفيذ ما يأمر به الشرع فيه هو شخصيا وفي غيره من المماليك. وفعلا عُقد للمماليك سُوقٌ ونودي على كل واحد منهم حتى بيعوا، ثم قبضْتُ أثمانهم وجعلتها في مصلحة المسلمين، وبذلك تحرّروا وصُحِّح الوضع.
> المحجة : ياشيخنا هؤلاء المماليك كانوا عبيد السلاطين المسلمين قبلهم، نحن عندنا في عصرنا حكام في الظاهر كالأحرار، وفي الحقيقة هم لا يستطيعون اتخاذ أي قرار سياسي أو اقتصادي أو تعليمي أو اجتماعي بدون موافقة صنم عندنا يسمى >البيت الأبيض< وبدون انسجام مع شرعية تسمىعندنا >شرعية دولية< يحرسها “هُبَلُ ا لعصر< يسمى >مجلس الأمن< فهل هؤلاء الحكام الذين طلقوا الشرعية الإسلامية، وطلقوا العبودية لله عز وجل، وطلقوا الاستقلال في اتخاذ القرار، وطلقوا الجهاد لحماية بلاد المسلمين.. هل يُعتبرون أحراراً يصح بيعهم وشراؤهم ونكاحهم ووو….
< سلطان العلماء : أعوذ بالله هؤلاء عبيد للكفار، والكفار أنفسهم لا يجوز حكمهم للمسلمين فكيف بعبيدهم.
> المحجة : وما العمل؟
< سلطان العلماء : ليس أمامكم إلا الصبر وتحرير شعوبكم بالدّعوة الحكيمة للاعتصام بالدين والاعتزاز بالله الآخذ بالنواصي والأقدام، فتحرير الشعوب سيحرر الحكام المكبلين بالخوف والهوى والطمع، وبذلك ترجع المياه إلى مجاريها فتلتحم الأمة بقممها وقواعدها وتتجه نحو القِبلة الصحيحة، وتؤسس لنفسها مجلسا للأمن مكتوب على بابه : {الذِين آمَنُوا ولمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُم الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}(الأنعام).
> المحجة : سيدي : الجلوس معكم لا يُمل، وحياتكم مليئة بالمواقف التي نحن بحاجة للاستفادة منها، ولكن الوقت لا يسمح لنا بأكثر من هذا، فمعذرة، وشكراً على الجلسة المباركة.
< سلطان العلماء : وفقكم الله تعالى وقوّاكم بمدد من عنده لتواجهوا التحديات الجسام التي تكاد تشل طاقاتكم الجهادية.
أعده وأنجزه ذ. أبو بدر
المرجع كتاب استمرار الدعوة الاسلامية