ليس الأقصى مجرد جغرافيا تمزقها المفاوضات السياسية إلى شرقية وغربية، وليست انتفاضة الأقصى مجرد حدث سياسي تعمل الحسابات السياسية على استثماره عكسيا كما يريد الزعيم عرفات ولا محاصرته كما يريد الزعيم المصري، ولا استهلاكه بكل خبث سياسي كما فعل المسؤولون المغاربة من خلال مسيرة استعراضية اعلامية لا تعكس بتاتا مشاعر المغاربة تجاه انتفاضة الأقصى. بل إن الأقصى الشريف بحكم شحنته العقيدية وحمولته التاريخية ورمزيته الثقافية يلخص الصراع الاسلامي-الغربي وصراع الحق مع الباطل، وبالتالي فالأقصى يلخص حركية الواقع العربي ويشهد عليه.
من هذا الموقع يرصد المتتبع لانتفاضة الأقصى مفارقات وتناقضات طفت على السطح وجاوزت الكبت والتلبيس ورقابة الحكام، ففضحت السياسات مرة أخرى وعرت الزعماء وأعادت الشعوب إلى الواجهة.
ذلك أن الأقصى الشريف كما قلنا هو عقيدة وفكرة وشعور وليس أرضا للبيع والشراء، وانتفاضة الأقصى هي نزوع جماعي نحو الكرامة والتحضر والحرية وليس مجرد حدث أو موقف سياسي.
وسنحاول من خلال هذه الوقفة أن نرصد بعض هذه المفارقات الكثيرة التي تكشف زيف زماننا العربي والحالة الرسمية.
الجامعة العربية
في الوقت الذي انتظر الجميع قمة عربية عاجلة تحدث الزعماء عن قمة مؤجلة وتحدث آخرون عن قمة فاشلة، بحيث ظهرت أعراض مرض التجزئة مرة أخرى، وحرب الزعامات، في حين ظهر زعماء آخرون كضيوف يمكنهم الحضور إذا تمت دعوتهم وكأن الأمر لا يعنيهم، وكانت القمة غير العادية التي أسفرت عن نتائج أقل من عادية، هذا في الوقت الذي أصبح فيه الخطاب الصهيوني خطابا اجماعيا بين اليمين واليسار، والحل حكومة وطنية تحفض المصلحة الصهيونية في المنطقة.
إننا نعلم أن الجامعة العربية مشروع تجزيئي كان هدفه منذ 1945 تكريس التجزئة والدولة القطرية وبالتالي الزعامات الديكتاتورية،
السلطة الفلسطينية
العدوان الصهيوني على الفلسطينيين يستوجب على السلطة الفلسطينية وقف كل أشكال التنسيق مع العدو، ولم شمل القرار الفلسطيني وفصائله، لكن المفارقة العجيبة أن ينطلق الزعيم عرفات في جولات سياحية بحثاً عن السفاح باراك والمتصابية ألبرايت من أجل سلام مزعوم أو لجان تفتيش متحيزة أو هيئات أمنية مشتركة مخابراتية أو لجنة دولية لتقصي الحقائق أو …
لقد أظهرت الانتفاضة أن ما يسمى بالسلطة الفلسطينية لا يمثل الشعب، وإن هذه السلطة لا ولن تمثل إلا نفسها.
لغة الحرب والسلم
في الوقت الذي يتحدث العدو الصهيوني عن زمن الحرب والمقاتلة بل باشر ذلك ضد الشرفاء الفلسطينيين، يختفي زعماؤنا وراء لغة السلام والاستسلام والعمل على محاصرة الوضع! فقد صرح الزعيم المصري -ضدا عن كل شعبه- وبكل وقاحة أن لا حديث عن الحرب وأن من يفكر في إعلانها تنقصه الحكمة!! كما أن الزعيم عرفات أمر الجناح المسلح لفتح بعدم استفزاز الصهاينة؟!
إنها لغة الهزيمة والجبن والخوف على العروش لم يسلم منها إلا القليل من حكام العرب..
الحالة الشعبية والحالة الرسمية
في الوقت الذي هب الشعب العربي والإسلامي عامة معبرا عن غضبه وشعوره بالكرامة وكامل احساسه بالمسؤولية واستعداده للجهاد، يكتفي الزعماء بالقول اللين وخطاب الشرعية الدولية ومحاصرة المواجهات! هكذا تظهر المفارقة بين الزعيم المصطنع والشعب الأصيل، هكذا يظهر أن الحالة الشعبية أقوى وأطهر وأنضج من الحالة الرسمية بما فيها كثير من الحكومات التي تدعي التقدمية كحكومة التناوب في المغرب التي لا تجد سوى العمل على سرق التظاهرات من الشعب واجباره على كتم شعوره الديني وإحساسه الإنساني عبر تأميم المسيرات تارة ومنعها تارة أخرى.
الحالة الإعلامية
نقف أيضا مع مفارقة اعلامنا العربي حيث إذا كان الإعلام هو مرآة المجتمع فإن المجتمع الحي النابض بالسؤال، والغضب والوجدان القوي تجاه فلسطين لا مكان له في اعلامنا المغترب فقد استمرت قنواتنا هائمة في الفضاء ولم تنزل الأرض فلها عرض المسلسلات، والأغاني والترفيه وأخبار الزعماء دون أدنى تمثل لانفعال الشارع والوطن الغاضب، واكتفت كأي اعلام أجنبي بل معادي بعرض أخبار قصيرة وتلميع صورة الزعيم المحلي من خلال هذا الخبر شأنها شأن أقصى دولة في جنوب افريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية.
إنها مفارقات تعكس انحطاط واقعنا الرسمي.