الدّور الرسالي للأستاذ
المقصود بالدور الرّسالي للأستاذ، اضطلاعه بأمانة العلم وأمانة التربية والتهذيب، وقيامه بمهمة الشهود الحضاري بما يقتضيه من إسداء للنصح وتصحيح للمفاهيم واتخاذ للمواقف الحاسمة البناءة والحكيمة في الوقت المناسب وبالقدر المناسب، وبناء عليه فلا يمكن الحديث عن دور رسالي خارج نطاق الإسلام، وكل ادعاء للرّسالية خارج ذلك النطاق لا يعدو أن يكون زعما باطلا، إذ أنه يفتقد لمنظومة القيم التي تجعله موسوما بذلك الوصف.
والمقصود بالأستاذ الذي تسند إليه صفة الرّسالية الأستاذ حالة كونه مباشراً للتدريس، أو حارسا أو ناظراً أو مديراً أو مشرفاً تربويا، فهؤلاء جميعا المفروض فيهم أن يشكلوا فريقا متكاملا متسانداً يستهدي بالمبادئ الرسالية التي تحث إحداها على التعاون مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}(لمائدة : 3). ويقتضي مبدأ آخر منها القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصداقا لقول الله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(آل عمران : 104).
أسئلة مشروعة
ويستوقفنا بعد هذا التحديد للمفهوم أسئلة مشروعة من قبيل : ما هو نصيب تعلمينا من هذا النوع من الأساتذة وهل تحمل مراكز التكوين عندنا على عاتقها همّ إعداده؟
وقبل الإجابة على هذين السؤالين لابد من تقرير حقيقة ناصعة، هي أنه بقدر ما يعظم رصيد المجتمع من ذلك النوع، تعظم لديه إمكانيات النهوض والتحرر من أغلال التخلف والضعف.
وأضيف هنا حقيقة أخرى مُفادها أن خطورة شأن الأستاذ (المعلم) كركن أساس في العملية التعليمية، نابعة من كون >عمل المدرس يعطيه فرصة عظيمة جدّاً لتكييف طلابه فكريا وعقديا ونفسيا وعاطفيا وسلوكيا كما يريد، ضمن إمكانات التأثير التربوي والتعليمي في الناشئين، مع ملاحظة اختلاف الخصائص الفطرية والفكرية والنفسية والطبيعية والجسدية بين الأفراد<(عبد الرحمان حبنكة الميداني -غزو في الصميم- ط3، 1410، 1990 -دار العلم -دمشق (ص63)).
إن الاستاذ الرسالي ذا التكوين المتين والخبرة الواسعة والموهبة العالية يتوفر على إمكانية كبيرة لاقتلاع الحشائش الضارة المزروعة عبر مساحة البرامج والمقررات، قبل أن تقع عليها أعين التلاميذ، ولتجْفيف منابع السموم وردم المستنقعات ورشها بالمبيدات للحيلولة دون وصولها إلى حمى التلاميذ.
إن مهمة الأستاذ الرسالي تتسم بالمشقة والمعاناة والتعقيد حتى في حالة انسجام وتناسق مكونات وأركان المنطومة التعليمية. أما وهذه الأركان والمكونات متشاكسة متنافرة، فإن مهمة الأستاذ -لعمري- أو وضعه يكون شبيها بمن يلقى به في حقل من الألغام، يحتم عليه أن يمتلك من الحكمة والدراية والخبرة والمعرفةبالمسارب والمنعرجات، ما ىؤهله لنزع فتيل تلك الألغام أو ضمان الخروج بأقل الخسائر والجراحات.
وأعود لأجيب عن السؤالين أعلاه فأقول بأن نظرة إلى واقع المؤسسات التعليمية تكشف عن قلة في أعداد الأساتذة الرساليين، لسبب بسيط، هو أن مراكزنا الخاصة بالتكوين لا تضع في حسبانها ولا من أهدافها تكوين الأستاذ الرسالي واشتراط أن يكون مرشحها خاضعا للمقاييس المحددة. ويبقى الجانب المعرفي هو الجانب الوحيد المعتمد كمعيار في ولوج هذه المراكز، وهذا تعبير عن قصور واضح في إدراك مقتضيات فلسفة التكوين الصحيح، الذي لا يكفي فيه الجانب المعرفي معياراً للقبول، بل هو أحد عناصره التي ينبغي أن تعزز بالجانب التصوري والأخلاقي الذي هو لب شخصية الأستاذ والهدف الأسمى، والعنصر الفاعل الذي يتوقف عليه بناء النفوس والتأسيس لعملية التغيير الاجتماعي نحو الأفضل والأسمى.
ولا غرابة أن يقتحم ميدان التعليم -في ظل هذا التصور القاصر لتكوين الأستاذ- عناصر السوء الذين حملوا معاول الهدم وأفسدوا ومكروا بالأجيال البريئة، فكانوا بذلك عوامل إجرام وإفلاس.
وللحقيقة أقول : بأن ما توفر لنا من أساتذة (معلمين) رساليين لا يرجع الفضل في وجودهم إلى أنظمة التكوين، وإنما يرجع الفضل في ذلك -بعد الله عز وجل ولطفه- إلى أجواء ثقافية وعناصر تربوية وفرتها حركة الصحوة الإسلامية، فكان من ثمراتها تقويم الاعوجاج في التصور والسلوك، وبث الروح الرسالية كتعبير عن الوعي بوظيفة الاستخلاف، وقد شملت آثار رياح الصحوة اللواقح فيمن شملت فئات من الأساتذة الذين تحسن عطاؤهم على مستوى الإشعاع العلمي والمعرفي كما على مستوى الإشعاع الثقافي والروحي.
ملامح من رسالية الأستاذ في ضوء الظَّواهر المدروسة
إن سؤالا مهما وعريضا يستوقفنا بين يدي تحليل هذا العنصر، وهو يتعلق بحجم رسالية الأستاذ والمدى الذي يمكن أن تصل إليه في المساهمة في جهود التحصين والصمود في وجه التحديات والمعوقات، ودرء المفاسد المحدقة بالمنظومة التعليمية والمستهدفين بها.
إن المدى الذي يمكن أن يصل إليه الأستاذ الرّسالي في أداء رسالته رهين بجملة من الشروط والعوامل، أذكر من بينها درجة اليقين والحماس التي يستبطنها ذلك الأستاذ ومدى استعداده للاستماتة في الدفاع عن مبادئه، وقدرته على توفير الوسائل الفعالة، ورسم الخطط الشاملة والنجاح في كسب الأنصار الذين يشاطرونه رأيه ويقاسمونه همّه، كما يتوقف حجم الرسالية ومداها، على مدى احترام الأستاذ لسنن التغيير وآلياته النفسية والاجتماعية وعلى مدى قدرته على استثمار الفرص المتاحة واللحظات الحرجة لبث قيمة من القيم أو إرسال فكرة من الأفكار، أو تسجيل موقف من المواقف، ولابد للأستاذ الرسالي -إذا أراد أن يكون نشاطه ذا فعالية ونجاعة وإشعاع، أن يطرد عن طريقه عوامل التثبيط وعناصر التخذيل وشبح اليأس من إمكان تغيير الأحوال، وأن يداخله شعور صادق بأنه جزء من تيار عارم يمثل الحق، وأن ذلك التيار مكتسح لا محالة لكل مواقع الباطل ومظاهره، مصداقا لقوله تعالى : {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون}، وقوله تعالى : {وأما الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}.
بعض مواقع الرسالية
إن الأستاذ الرّسالي يستطيع أن يمارس دوره من مواقع شتى :
< فهو في بيته الحارس اليقظ والناصح الأمين والواعظ المرشد والقائد العدل الحصيف. وهو في نفسه المربّى الذكي الذي يكتشف الملكات وينمي المواهب، ويقتلع أشواك الأخلاق الفاسدة ويبذر البذور الطيبة، ويصد الغارات ويحبط المؤامرات التي قد تتجسد في محتويات المقررات، بل وحتى ما يلقاه التلاميذ خارج قاعات الدرس.
< والأستاذ الرِّسالي في مجال مؤسسته رقيب عتيد ومناقش عنيد يقف للمبطلين بالمرصاد ويكشف زيفهم بالحجة والحكمة والموعظة الحسنة والجدال الحسن، ويعمل جاهدا على بناء بيئة ثقافية سليمة، من خلال ما يقدمه من عروض ومحاضرات وينظمه من ندوات ومدارسات، ومعارض ومسابقات.
< والأستاذ الرّسالي يإمكانه أن يصنع تياراً خيراً في تضافر مع إخوانه وزملائه من الأساتذة من خلال مجالس الأقسام التي تتيح فرصاً سانحة لتوحيد الرؤى ورسم الخطط الكفيلة بحل المشاكل وتذليل الصعوبات التي تعتري سير التعليم، وبتقويم اعوجاج التلاميذ. ويشكل المجلس التعليمي إطاراً صالحاً لتسطير الملاحظات والانتقادات وتسجيل الاقتراحات الصالحة للتغيير والتطوير، والأستاذ الرِّسالي في كل ذلك يستشعر أمانة المسؤولية وعظم أمر الشهادة التي يبرئ بها ذمته أمام الله عز وجل وأمام أمته والتاريخ، وهذا الشعور وحده الذي يحرره من مغبة اللامبالاة واستشعار ثقل الروتين الذي يجده كثير من الأساتذة إزاء إنجاز التقارير الذين هم مطالبون بها، والأستاذ الرّسالي في موقع الإشراف التربوي يستطيع أن يفعل الشيء الكثير من خلال ما يبعث به من تقارير يحرص على أن تكون صورة أمينة لواقع العملية التعليمية بجميع أركانها وملابساتها وأجوائها، فلا يتقاعس عن الصدع بكلمة الحق والمطالبة بإرجاع الأمور إلى نصابها ودق ناقوس الخطر وتحميل المسؤولية للمعنيين بها.
وفي هذا السياق يستطيع المشرف التربوي من موقع الرسالية، كالأستاذ سواء بسواء أن ينبه على مخاطر العلمانية على نفوس الناشئين، وإن كان الأستاذ في موقع أنسب لسلخ الدروس من خلفيتها العلمانية، وإلباسها لباسها الحق وإعادتها إلى روحها الأصيلة التي تقوم على وحدة الخلق ووحدة الحقيقة.
< وفي مقدور الأستاذ الرّسالي، مدرساً وحارساً وناظرا ومديراً ومشرفاً تربويا، أن يساهم بجهد طيب في وضع لبنات المشروع التربوي المرتقب الذي ينبغي أن يتجاوز وضعية الفوضى والتخبط التي فوتت على المجتمع فرص تجميع الطاقات وتوحيد المقاصد والغايات، وفي مقدور هؤلاء جميعهم أن يتحركوا إيجابيا من خلال المجلس الداخلي، بتحويله إلى خلية للضبط والتصحيح، ومن خلال جمعية آباء وأولياء التلاميذ التي بإمكانهم أن يجعلوا منها ملتقى للتشاور والتفكير، وتجنيد الطاقات، وتنسيق الجهود في سبيل توحيد المفاهيم التربوية بين المؤسسة والبيت، درءاً لكل فصام نكد أو تضارب مششين بين القيم، وكذلك في سبيل تأسيس مناخ تربوي نظيف وبيئة ثقافية سليمة تشكل محضنا للتنمية الخلقية والإبداعية.
< والأستاذ الرّسالي بفضل حمله لهّم التغيير والإصلاح لا يسأم من التبشير المستمر بالمشروع الإسلامي المنشود لصياغة الإنسان وبناء الشاكلة الثقافية المتميزة التي يُناط بها البناء الحضاري المأمول، يفعل ذلك كلما واتته الفرصة بواسطة القنوات المختلفة والمتنوعة التي يمرر منها خطابه بكل نضج ومرونة وشفافية.
<والأستاذ الرّسالي في أي موقع كان، يشكل طليعة جبهة المقاومة الثقافية والتربوية، بما يملكه من فكر ناقد وروح وثابة للتغيير البناء، ويقف بكل ما أوتي من عزم وقوة ومن ثقل علمي وإشعاع روحي في وجه ما يحاك من الدسائس والمؤامرات، ويدل على مواطن الخلل ويميط عنها اللثام ويكشف عواقبها الوخيمة للناس، حتى يتجندوا لمواجهتها صفا واحداً، درءاً للأخطار وإنقاذاً للأجيال. فمن مقتضى هذه الخصائص مثلا أن يبرز خطر المنظومة التعليمية التربوية كمعقل من المعاقل المستهدفة من الكائدين، لتذويب شخصية الأجيال المتعلمة وتحييدها عن موقع الصراع، تمهيداً للإبادة الحضارية، وهكذا يفرض واجب الرسالية على الأستاذ أن يكشف الوجه التدميري البشع للازدواجية كداء وبيل ينخر عظام تلك المنظومة ويحكم عليها بالعقم والانهيار، الأستاذ الرّسالي لا يكتفي بالكلام والتنظير في جميع الأحوال، بل يستشعر مسؤوليته في القيام بالمبادرات الصالحة والبحث عن البدائل الكفيلة بتخفيف المصائب وتقليل الخسائر، في انتظار أن يحدث التقويم الحاسم والعلاج الجذري.
وخلاصة الأمر أن الأستاذ الرسالي جندي أمين كامل اليقظة، طويل النفس، لا يتزحزح عن الثغر حتى لا يؤتى من قبله، وهو منبع الرحمة وموئل الحكمة صارم في الدفاع عن الحق وديع في الدعوة إليه والإقناع به، رائده في ذلك قوله تعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل : 125) وقول رسوله : >إنّك على ثغر من ثغور الإسلام فلا يؤتين الإسلام من قبلك<.
(ü) مفتش التربية الاسلامية
بأكاديمية وجدة.