إن أصل المصائب التي أُصيبت بها البشرية على اختلاف أزمنتها وأمكنتها ناشئ عن عدم الإيمان بالبعث والحساب والصراط والميزان فزيادة على كثرة الأدلة السمعية الواردة في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله هناك أدلة مادية كثيرة بدهية تدل على البعث والإحياء بعد الموت منها دليل بسيط التصور لا يحتاج في تصوره إلى عناء في التفكير، ولا إلى فلسفة عميقة.
ذلك أننا إذا نظرنا إلى مختلف الحبوب النباتية وأنواع الزّرَارِيع والبُذُور وهي تفوق ملايين الملايير من الأطنان وزنا وفي مختلف أراضي أقطار العالم بالكرة الأرضية.
وإذا نظرنا إلى ما جعله الله فيها من الحياة والنمو حينما تكون خضراء يانعة جميلة، (وإذا نظرنا إلى أنها بعدُ تصير ذابِلَة ميّتة فاقِدة لعناصر النمو والحياة)، (وإذا نظرنا إلى أن من هذه الزَّرَاريع ما هو دقيق صغير الحجم وربما كان على قَدْر الهباءة التي ترى مع أشعة الشمس.
وإذا نظرنا إلى أنها مع دقتها وصِِغَر حجمها يحفظ الله سبحانه لكل حبة منها جينَتَها الوراثية ويبقيها حاملة لخاصيتها حتى إذا أعاد سبحانه لها الحياة بزرعها في الأرض ثم سقيها بالماء وتظهر من هذه الزراريع حدائق ذات بهجة بها نباتات مشكلة الأنواع والأصناف حاملات لمختلف الألوان والرَّوَائح والمنافع والمطاعم والأذواق.
فالتربة والماء واحد والزهر ألوان ولا دخل لهما في الخصوصية السُّلاَلِية، ولكنها تكمُن في المِحْضن الدقيق الذي تحمِلُه كلُّ حبة من البذور.
وأيضا فإن بذرة الزهرة المسماة بالقرنفل أبدا لا يتكون منها زهرة الفلِّ والعكس، وكذلك فإن بذرة الفوم -الثوم- أبداً لا تنتج عدسا، وبذرة العدس أبدا لا تنتج بصلا وبالعكس والله تعالى هو الجاعل لكل بذرة خاصيتها وسلالتها وهو الحافظ من أن تخلط الأمور.
وفي صحيح البخاري حديث يَدُلُّ على أن الرسول الطبيب النفساني اعتبر السُّلالة في ولادة الإنسان، وقرّر الأخذَ بها في التشريع الإسلامي، وجعلها مانِعَة من وُجُوب الحدِّ، ففي كتاب الطلاق منه “باب إذا عَرَّضَ بنفي الولد” عن أبي هريرة ] أنّ رجلا أتى النبي فقال : يا رسول الله، وُلِدَ لي غلامٌ أسودُ فقال عليه السلام : هل لك مِنْ إبل؟ قال الأعرابي : نعم، قال ما ألْوَانُها؟ قال : حُمْر، قال : هل فيها من أوْرَق -مختلط السواد والحُمرة- قال : نعم، قال : فأنَّى ذلك؟ قال : لعل نزَعَهُ عِرْقٌ، قال : فلعل ابنك نزعهُ عِرق.
قال الحافظ ابن حجر : >والمرادُ بالعِرق الأصلُ من النسب، شبَّهَهُ بعِرْق الشجرة، وأصل النّزّعِ الجذْبُ< ونقل عن القرطبي ما يلي : لا خلاف أنه لا يَحِلُّ نفْيُ الولد باختلاف الألوانِ المتقارِبة كالأُدْمَةِ والسُّمرة، ولا في البياض والسواد إذا كان قد أقرّ بالوطء ولم تمْضِ مُدةُ الاستبراء.
وما خلقه الله تعالى ويخلقه في العالم من البذور الفلاحية ومختلف الحبوب النباتية أكثر مما خلقه ويخلقه من البشر كمّاً وكَيْفاً.
أمّا من حيث الكمّ والعدد، فإن عدد ما خلَق ويخلُق منها بدءاً وإعادةً -لِيَلاَّ تنفدَ وتنقضي- على مرور العُصور والدهور أكثرُ من عدد ما خلق ويخلقُ من البشر، إذْ على أكثريتها أو بسببها يعيش الإنسان والحيوان والطيور وغيرها.
وأما من حيث الكيف والهيئة، فإن خلقَها والاحتفاظ لكل حبَّة منها بخاصيتها لَوْناً وطعما ورائحة وحَجْماً و، و، و، أصعبُ وأهمُّ من خلق الإنسان مع جميع خاصياته، ألا ترى أنّ صنع الفيل والزرافة مثلا أسهلُ من صنع النملة لدِقَّة أجهزتها وكِبَر أجهزة غيرها، وقس على ذلك، فإن العالم كلَّه أقْيِسَةٌ وشَوَاهِدٌ.
والإنسان -وفيه يكمن العجبُ العجاب بطغيانه وكبريائه وتعاظمه وجبروته وإنكاره للبعث والحساب والصراط والميزان- كذلك اختلفت سلاسِلُه الوراثية أو سُلالَتُه كما عَبَّر القرآن الكريم بسبب اختلاف الجينة الوراثية المتسلسلة في أصلاب الرجال منذ بدء الخليقة وهي التي يحملها الحيوانُ المنوي في الماء المهين كما عبر الحق سبحانه في سورة المرسلات الآية 21 : {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِن مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وكما قال تعالى في سورة المومنون الآية 13 : {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثم جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}.
فسلالة الحُزُونَة والصعوبة الوراثية مثلا في طبيعة البعض : أو سلالة اليُسْرِ والسهولة في البعض، وسُلالة زرقة العيون أو سوادها، أو سواد البشرة أو بياضها، أو بين بين، كل ذلك يدخل في العامل الوراثيالجيني.
والقرَارُ المكين هو الأرحام والمحارث والنابث والأبضاع والمحاضن النِّسوية التي جعلها الله مُستَنْبتاً للأزواج، والتي يمُرُّ منها البشر كلهم بدون استثناء ولا فرق بين شريفهم ومشروفهم قال تعالى في سورة البقرة الآية 223 :{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ}.
وطبعاً هل يُمْكن أن يُتَصور أن الله تعالى يقدر على إعادة الحياة بجميع البذور والزراريع مع ما فيها من المحافظة عى الجينات الوراثية ولا يقدر على إعادة الحياة للإنسان بعد ذبوله وموته وإقباره حتى يأتي يوم العرض على الله ربِّه ومعه صحفه وسجلاته مما قدم في الحياة الدنيا : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، ومَنْ يَعْمَل مِِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}.
والله تعالى يقول في سورة الأعراف الآية 29 : {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ويقول في سورة الأنبياء الآية 104 : {كَمابدَأْنَا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِين}.
ولا يقولن أحد إن الطبيعة هي الصانعة والخالقة والمذبرة لكل هذا، لأن الطبيعة متغيرة، وكل متغير حادث، والحادث لا يمكن أن يكون ربا وإلاها، إذ قبل حدوث الطبيعة ووجودها من الذي كان حافظاً من أن تسقط السماء على الأرض قال تعالى في سورة الحج 65 : {ويُمْسِكُ السَّمَاءَ أنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال تعالى في سورة فاطر الآية 41 : {إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْض أن تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إنْ أمْسَكَهُمَا مِنْ أحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} وإن في قوله تعالى : {إنْ أمْسَكَهُمَا} نافية أي ما يمسكهما أحد غيره سبحانه.
فلَو أن جميع الجبابرة والطغاة والظلمة وجميع من يخالف شرع الله والنساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات السادرات في غوايتهن واللواتي كثير من شياطين الإنس العلمانيين الملحدين يدعون إلى استثمارهن في التنمية الغربية حتى يجلبن عن طريق التحلل الجنسي أرْبَاحاً مادية.
لو أن كل هؤلاء وغيرهم اعتبروا وقاسوا إحياء الإنسان بعد موته على إحياء الأرض ومختلف النباتات بعد موتها لأكسبهم هذا القياس العلم الضروري اليقيني بأنهم سيُبعثون من قبورهم ليقفوا بين يدي أحكم الحاكمين ليحاسبهم على تجبرهم وطغيانهم.