-1 لا استغناء لأحد عن التوبة :
لازلنا أيها الإخوة مع هذا المعنى الإسلامي الذي هو التوبة والإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه بعد الإعتراف والإقرار بالمعصية والخطإ، ولأن موضوع التوبة موضوع مهم وموضوع أكيد في حياة المسلم، ولأن المسلم كيفما كان يحتاج هذه التوبة ويرجع إليها وهي طريق الخلاص له وطريق التخفف من الذنوب، فقد أولاها العلماء عناية خاصة، حتى أن بعضهم أدخلوا موضوع التوبة في العقيدة، فتجدهم قد خصصوا لها مباحث وأبواباً في كتب العقيدة، ودرسوها في كتب العقيدة، مع أنها يمكن أن تدرس في كتب الآداب أو الأخلاق أو تربية النفس أو إصلاح القلوب وما إلى ذلك، لكن بعض العلماء درسوها في العقيدة لأن الذي يترتب عليها من الآثار شيء مهم وشيء نفيس.
هذه التوبة، هي عبارة عن أحوال ثلاث :
أ- عن حالة علم وهي عبارة عن حال يكون في التائب.
ب- وهي عبارة كذلك عن موقف بالنسبة للمستقبل.
فأما العلم، فهو علم الإنسان بأن ما فعله ذَنْبٌ فالمرحلة الأولى في التوبة هي إقرار الإنسان واعترافه بأن ما فعله ذنب، لأن الذي يبرر ويُسَوّغ، ويحاول أن يجد لنفسه المبررات لا يمكنه أن يتوب، فالذي يقول لك نعم فعلت هذا الأمر ولكنه أمر ضروري وقد دعت إليه الحاجة، وأصبح من مقتضيات العصر ولا يمكن أن نتخلى عنه، فهذا يدافع عن المنكر ولا يمكن أن نتصور أنه يتوب عنه مادام يؤيده ويدافع عنه.
-2 التبرير للخطإ والانحراف اتهام للدين بعدم صلاحيته :
وهكذا يقال عن الربا مثلا أنها ضرورة من ضرورات العصر ولابد منها ولا يتحرك الاقتصاد إلاَّ بها، فلا داعي إلى تحريم الربا، ومعنى هذا أن الإسلام تجاوزه العصر، ولابد من دين جديد، فإننا نعيش زماناً أصبح أهله لا يستغنون عن الربا، بدعوى أن الحياة تطورت ولم تعد بسيطة كما كانت من قبل، في الوقت الذي ظهر فيه هذا الدين الذي حرّم الربا حيث كانت الأوضاع الاقتصادية آنذاك قابلة لأن تتخلى عن الربا، أما الآن فقد تعقدت العلاقات وأصبحت هناك مشاريع كبرى ومؤسسات ضخمة وأصبح الاقتصاد متشابكا، فلا يمكن أن نترك الربا لأنه أصبح جزءاً من الحياة الاقتصادية، وهذا فيه ما فيه من الخطإ والضلال والزيغ لأن هذا رفض للدين جملة وتفصيلا، وكأن الإنسان يتهم الدين بأنه لم يعد صالحا لهذا الزمان.. ونحن نقول إن دين الله صالح للزمان وللمكان وللأشخاص وللقضايا كلها، دين الله يستغرق الأمكنة كلها صالح لها، يصلح أن يطبق في المغرب ويصلح أن يطبق في نيويورك وواشنطن أو في كندا أو في اليابان، بل إنه يطبق في كل مكان، ويطبق في كل زمان ويطبق في جميع الأشخاص ويطبق في جميع القضايا والموضوعات، هذا هو ديننا الذي نعتقده.
مرحلة الإقرار والاعتراف والتسليم بأن ما فعل معصية، تَحْرِمُ من رضا الله عز وجل، وتَحْجُزنا عن الله، ضرورة لقبول التوبة.
المرحلة الثانية وهي مرحلة الندم على الشيء الذي صدر مخالفا للشرع، هذا الندم الذي تتأسس عليه التوبة لا يكون ندماً شرعيا وصحيحاً، ونافعا في التوبة إلا إذا كان ندماً من أجل الحياء من الله فقط، سكِر وسَرَقَ وفَعَلَ وفَعَلَ.. فهو الآن يسترجع تلك الأفعال القبيحة فيندم عليها لأنه يعلم أنه كان في وضعية غير سليمة، وأنه يستحيي من ربه، ويستحيي أن يقابل ربَّه وهو قد ارتكب كل هذه الآثام، فإذا وقع منه هذا فقد بدأ في المرحلة الثانية الحقيقية للتوبة.
-3 لا توبة لعاجز متشوق إلى الماضي السيّئ :
أما إذا ندِم لغرض آخر، لِدَاعٍ آخر دنيوي أو اعتبار آخر فإنه لا توبة له، فالإنسان قد يندم بعد أن كان يتعاطى الخمر والزنا والقمار، ثم بعد مدة ذهب ماله وفرغت يده واكتشف أنه كان مخطئا، فهو الآن يتأسف ويتحسر على الماضي، على ماله الذي ضاع، يقول لو كنت مستقيما لما ضاع مالي، فالذي يشغل قلبه هو ضياع ماله لا علاقته بالله، هو يتأسف على فوات المال لا على علاقته بالله، إذاً فهذا ليس تائبا، وليست هذه هي التوبة،.
الذي تأسف كذلك على أن سمعته قد ضاعت، كان يُعرف بالخير ثم تهالك على الشر، فعرف به وبعد مدة أصبح يتأسف حتى قال : لو أنني بقيت على ما كنت عليه من قبل لما أصبحت على هذه الحالة المزرية، ولما أصبح الناس يصفونني بكذا وكذا، فهذه توبة ولكن فيها ندم على السُّمْعَة التي ضاعت لا على العلاقة بالله، وهناك اعتبارات متعددة يمكن أن يتوب الناس لأجلها، فكثير من المجرمين قابعون في السجون فإذا كانوا يتألمون لأنهم أساؤوا العلاقة مع الله فهذه توبة، ولكنهم إذا تألموا لأنهم ضبطوا وتورطوا وعوقبوا فهؤلاء لا توبة لهم لحد الآن، التوبة هو النَّدَمُ على إساءة التصرف مع الله عز وجل.
-4 لا يشترط في التوبة استحضار جميع الأخطاء أيام الانحراف :
ومن أجل أن نندم على الفعل الذي صدر منا، يقتضي هذا -كما ذكر علماء العقيدة- أن يستحضر الذنب الذي فعله ويندم عليه، وهذا هو المفروض، يوم كذا فعل كذا، يوم كذا أخذ مال فلان، ويستحضر جزئيات الفعل الذي صدر منه، لكن بعض الناس، لا يكون أمرهم هكذا، ربما يتوب الإنسان بعد الخمسين من عمره، وكان من قبل لصاً، فهل سيستحضر جميع سرقاته التي سرقها، هل له دفتر يوثق فيه أعماله وأفعاله؟ ربما يذكر من ذنوبه وأخطائه أربع أو خمس حالات كبرى ولكنَّ ما فَعَلَهُ كُلَّ يومٍ ينساه،. إن الندامة تكون عن الفعل المعروف، حيث قال بعض العلماء : إنه يتوب توبة إجمالية، يندم ندماً إجماليا فيقول : “اللهم ما كان مني من ذنب (في سرقة أو كذا) فاغفره لي”على وجه الإجمال، والله تعالى محيط بجميع ذنوبه ويعلمها ولا شيء يخفى عليه، العبد نسي أكثرها، فهذا يتوب توبة على الإجمال، ويقول : ما كان مني من ذنب من هذا الباب -من سرقة أو كذا- فاغفره لي يارب، ويندم على جميع سرقاته بلا تحديد ولا تخصيص، وهذا أيضا أسلوب صحيح في التوبة، يمكن أن يكون هذا نافعاً في توبة الإنسان، بشرط العزم على عدم العود إلى ذلك الفعل، وهُوَ قادرٌ أما إن فقد القدرة على إتيان هذه المعاصي، فالعلماء قالوا إن توبة هذا الإنسان وإسراره في قَلْبه -وهو غير قادر- شيءٌ نافع، فمجرد اعتقاده بأنه لن يفعل ذلك الفعل، ولو أنه عاجز عن فعله فإن هذا ينفع.
قال بعض المعتزلة وهو الجُبَّائي : “إن العاجز لا توبة له”، ومعناه أن الإنسان يتوب مادام قادراً على فعل الشرّ وَلا يفعل، لكن الذي قُطِعَ لسانُه ويريد أن يتوب عن النميمة التي لا قدرة له عليها فلا توبة له… الذي كان يمارس الفاحشة -مثلا- ومنع منها بعارض : بمرض ولم يستطع أن يفعل ذلك فلا توبة له، ونفس الأمر بالنسبة لإنسان كان موظفاً، يأخذ الرشوة طول حياته، لكن هذا الموظف تقاعد أو قُعِّدَ أو طُرد من وظيفته، فهو يريد أن يتوب عن الرشوة، فهل توبته مقبولة؟ إن الجبّائي يقول إن التوبة مشروطة بالقدرة، أما الذي فقد قدرته فَقَدْ فَقَدَ توبته، ولذلك يفرض في الإنسان أن يتوب قادراً وله الأجر مادام قادراً، فالشاب الذي وقع في الفاحشة ويتوب عنها له أجرٌ، لأنه قادر على أن يعاود فلا يفعل، أما الذين يقولون سنكبر، ونشيخ فنتوب، هؤلاء لا توبة لهم في الحقيقة على رأي الجبائي ويسمى هذا إلجاءً، ومعناه أنك ستُلجأ إلى ترك الفعل. ولن تتركه عن رغبة وطواعية، بل لازلت تحس بقابلية واستعداد لممارسة هذا الفعل لولا عجزك عن فعله.
الإنسان مادام فيه توهُّجٌ وقدرة على الشر ويتوب فهذه هي التوبة الصحيحة، توبة الشابعن الزنا هي التوبة الحقيقية، ليست توبة الذي شاخ ثم تاب عن الزنا توبة القادر على أن ينفذ أمره وبيده سلطة ولا يريد أن يظلم الناس هذه توبته، الذي بإمكانه أن يتلقى الرشاوى ولا يفعل هذه توبة، أما الذين تجاوزتهم الأيام وتجاوزتهم الأحداث فهؤلاء أجبروا على ما هم عليه لا يَظُنَّنَّ ظانٌّ منهم أنه تاب وإنما هو عاجز وقاصر وقاعد لا يستطيع، ولو أُعْطِيَ قُوَّةً جديدة لربما عاد لـِمَا كَانَ عَلَيْه، وهذا مهم جداً في اعتبار التوبة. فالتوبة وعيٌ بخطورة الانحراف عن صراط الله، ووعي بخطورة الغفلة عن الله تعالى، ووعي بخطورة الذنب على النفس والمجتمع، وهِيَ أيضا إبصارٌ للحق، وعزْمٌ داخلي على الرجوع إليه، ثم الرجوع فعلا مع تطليق الماضي عَملاً وحنيناً وهو قادر، فإذا كان عاجزاً ولكنه نادم ندما صادقا فإن الله غفور رحيم.