أدعو إلى إقامة تحالف دولي ضد الكراهية. ذلك انه ليس معقولا أن يشتبه في ضلوع بعض المسلمين في الهجوم الارهابي على نيويورك وواشنطن، فتلقى قنبلة على مسجد في استراليا وتغلق المدرسة الاسلامية في كالجاري بكندا، ويعتدى بالضرب على فتيات يلبسن الحجاب في لندن، ويحرق مطعم يملكه مسلم في برلين، وتضطر الشرطة لإخلاء مسجد لشبونة، ويضطر بعض المسلمين الاتراك إلى حلق لحاهم حتى يتجنبوا الملاحقة في الشوارع.
ليس معقولا ان تحاكم أمة بأسرها، وأتباع دين سماوي عن بكرة أبيهم، لمجرد ان بعض المنتسبين الى تلك الامة أو ذلك الدين اتهموا في جريمة ما. وبذات القدر ليس مفهوما ان يكون المسلم وحده من دون كل البشر هو الذي تذكر هويته الدينية وليس القومية، اذا ارتكب خطأ ما، فيرتكب الصرب كل ما يخطر على البال وما لا يخطر عليه من مذابح وجرائم ضد الانسانية، ولايقال انهم ارثوذوكس وبعد الذي فعله الروس في الشيشان، فاننا لم نقرأ مرة واحدة ان جرائمهم ارتكبها ارثوذكس. ايضا، كما ان احدا لم يعرف ان النازيين كانوا بروتستانتاً ولا ان الفاشيين في ايطاليا كانوا كاثوليكاً.
اما الاكثر مدعاة للدهشة، فهو أن تشن حملة الكراهية الواسعة عبر مختلف الابواق في العالم الغربي المتحضر، بينما كل ما توافر حتى الآن هو مجرد شبهات، لم يثبت منها شيء بحق أي احد من المسلمين، وكل الذين ذكرت اسماؤهم حتى ممن كانوا على الطائرات التي استخدمت في الهجوم، لم يعرف بعد ما اذا كانوا مختطفين أم ركابا عاديين شاء حظهم العاثر ان يكونوا على الطائرة في تلك الرحلات المشؤومة.
والامر كذلك فلعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان الاسلام والمسلمين يتعرضون منذ وقعت الواقعة بوجه اخص لحملة عالمية استهدفت اثارة الكراهية ضدهم وتحريض المجتمعات الغربية عليهم، وتشويه كل صورة لهم، وهذا الذي حدث في داخل الولايات المتحدة وكندا واستراليا واوروبا هو من ثمار تلك الحملة، التي ينبغي ان تواجه بموقف قوي وحازم من جانب كل المنظمات الاهلية الاسلامية والعربية.
ان من يقرأ الصحف الغربية يجد انها تطفح بالكتابات التي تسب الاسلام والمسلمين وتحرض عليهم، بعبارات مسكونة بالبغض والوقاحة، وتتبنى خطابا عنصريا صريحا، مما يحظره القانون في اي بلد متحضر، ولا اعرف لماذا يسكت المسلمون والعرب على ذلك ويديرون خدهم الايسر كلما تلقوا الضربات والصفعات على الخد الايمن. والمسلمون والعرب الذين اعنيهم هم أولئك الذين يعيشون في الدول الغربية ويمثلون جالياتها، وهم ايضا الذين ينخرطون في الجماعات الاهلية المختلفة في بلادنا، سواء كانوا منظمات اسلامية عالمية أو اتحادات ومنظمات عربية لحقوق الانسان والمحامين والصحافيين.. الخ.
لقد دعت الولايات المتحدة الى تحالف عالمي ضد الارهاب، رغم ان ذلكالتحالف قائم بالفعل من خلال التنسيق المستمر بين مختلف الاجهزة الامنية، وان لم يحمل ذلك الاسم الصريح. وهي دعوة مفهومة اذا تم الاتفاق على تعريف واضح ومنضبط للارهاب ـ يخرج من نطاقه مثلا مقاومة الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية ـ واذا روعي فيه احترام القانون وقنوات الشرعية الدولية.
ولان الامور آلت الى الفوضى فاختلط الحابل بالنابل، حتى ساوت اسرائيل بين الهجوم على الولايات المتحدة وبين انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال التي اعتبرتها “هجوما عليها” فاخشى ما يخشاه المرء ان تستمر الفوضى ويأخذ التخليط مداه، بحيث تتحول الدعوة للاحتشاد ضد الارهاب الى اعلان حرب على الاسلام والمسلمين، ورخصة تطلق يد مختلف الانظمة لقمع معارضيها السياسيين وعلى وجه الخصوص الناشطون الاسلاميون أو المدافعون عن حقوق الانسان بحجة انهم “ارهابيون”.
ان عددا كبيرا من الكتاب والمعلقين الغربيين استعادوا هذه الايام فكرة “صدام الحضارات” التي اطلقها صامويل هنتنجتون ولسان حالهم يقول صراحة: حانت لحظة المواجهة، وها هو الاسلام يحاول الانقضاض على الحضارة الغربية، وها هم المسلمون يهللون للتدمير الذي شهدته نيويورك، ممنين انفسهم بيوم تنهار فيه الولايات المتحدة، ويسقط صرح حضارة الغرب بأسره.
لقد قرر اولئك الكتاب “المتحضرون” ان الذين قاموا بالهجوم هم من المسلمين، قبل اي محاكمة أو ادانة، ثم اختزلوا في اولئك الفاعلين المفترضين الاسلام كله، بعقيدته وكتابه واتباعه، ثم اختزلوا موقف الامة الاسلامية كلها في صورة لفرحة البعض في احد المخيمات الفلسطينية، واعتبروا ذلك دليلا على ابتهاج الامة وسعادتها بالهجوم الارهابي دونما اشارة الى أن اولئك الذين ظهروا في الصورة هم من ضحايا الارهاب الاسرائيلي في الاساس.
بعد تشويه الموقف الاسلامي على ذلك النحو فان الاصوات تنافست في الدعوة الى استئصال “الشر الاسلامي” من جذوره، والتخلص من تلك الكتلة الشريرة المسماه بالعالم الاسلامي الذي وصفوه بالخطر “الاخضر” واعتبروه وريثا للشيوعية التي وصفوها في السابق بالخطر الاحمر، فقد كتبت مارجريت وينت في الصحيفة الكندية “جلوب آند ميل” (عدد 9/12): هؤلاء الذين فعلوها (تقصد الهجوم على نيويورك وواشنطن) هم “ابناء الصحراء النائية، الذين يحملون معهم ثقافة القبيلة القديمة التي تمتزج بالدم والثأر، والمسكونون بالمعتقدات الجاحدة والكراهية اللدودة، الذين لا يقيمون وزنا للحياة البشرية، ويرتكبون جرائمهم باسم الله، ويبدون استعدادا مذهلا للتضحية بانفسهم وهم يقتلون الآخرين”. على هذا النحو مضت الكاتبة التي يصب كلامها في اتجاه واحد، وهو ان المسلمين جميعا حالة ميئوس منها وجنس فاسد يجب الخلاص منه، والعالم بغيرهم لا بد ان يكون افضل كثيرا منه في وجودهم.
في عدد “التلجراف” الصادر في 9/15 كتبت باربارا اميل ـ وهي يهودية وزوجة كونراد بلاك، صاحب الجريدة البريطانية ـ تقول انه “لسوء الحظ ان المسلمين المتطرفين يملكون اسلحة عصرية في ايديهم والدول الاسلامية اما انها تدعمهم أو انها تؤويهم، وهؤلاء لهم هدف واحد هو تدمير الحضارة الغربية. ازاء ذلك فليس امامنا بديل، فيجب ان نصنفهم في مربع الاعداء، وان يطردوا من الامم المتحدة، فاذا تقاعست عن ذلك فينبغي ان تلجأ الولايات المتحدة الى طرد الامم المتحدة ذاتها، وفي الوقت ذاته ينبغي ان يُمنع الجهاد تماما، ويجب ان نطالب المجالس الاسلامية بادانته، وهذا التعظيم والاكبار له (الجهاد) في الكتب الدراسية وفي المساجد ينبغي ان توضع له نهاية، والا يسمح به على الاطلاق”.
هذه اللغة في الاتهام والادانة يجب ان تقاوم من جانب المنظمات الاهلية المدافعة عن حقوق الانسان ومن جانب المنظمات العربية والاسلامية، اذ الملاحظ ان كلاما من هذا القبيل يكال لنا كل يوم، بينما يتخذ المسلمون موقفا دفاعيا يحاول اثبات براءة الاسلام من الارهاب وحرصه على الحياة والكرامة الانسانية، ودعوته الى السلام والتعايش بين الشعوب والقبائل فضلا عن الاديان والمعتقدات. وعلى اهمية ذلك الايضاح، فازعم انه يمثل موقفا دفاعيا ينبغي تجاوزه، لان الذين يشنون حملات التشويش والتحريض والاتهام لكل العرب والمسلمين واخراجهم من زمرة البشر الاسوياء هؤلاء هم المخطئون الذين يتجنون وينتهكون ابسط مبادئ حقوق الانسان ويجب ان يقال لهم ذلك صراحة وعلنا.
لا اعرف لماذا لا تتبنى المنظمات العربية والاسلامية الدعوة الى اقامة تحالف دولي ضد الكراهية يوقف تلك الحملات المسمومة التي تؤجج الصراع بين البشر، وتفتح الباب لاراقة مزيد من الدماء وسقوط مزيد من الضحايا؟ لماذا لا تشن حملة احتجاج عالمية ضد امثال تلك الحملات، ولماذا لا تقدم الدعاوى الى المحاكم ضد الذين يطلقون خطاب التشهير والتحريض وتأليب فئات المجتمع ضد العرب والمسلمين، ولماذا لا يقدم ملف بما ينشر في هذا الصدد الى محكمة حقوق الانسان الاوروبية أو الى جهة قضائية دولية اخرى؟
لست هنا بصدد التفصيل فيما ينبغي عمله، لان دعوتي الأساسية تنصب على ضرورة تجاوز موقف الدفاع، وتسليط الضوء على مختلف مظاهر السلوك الظالم وغير المتحضر الذي يعبر عنه اولئك الذين حاكموا المسلمين وادانوهم عبر وسائل الاعلام واثاروا مشاعر عوام الناس وحرضوهم بعد ان شحنوهم بمشاعر البغض والكراهية. وليس سرا ان الكتاب والعناصر اليهودية المؤيدة لاسرائيل هم الذين يقودون الحملة ويغذونها في كل اتجاه وعبر مختلف وسائل الاعلام ومنابره. وهي مسؤولية تاريخية يجب ان تنهض بها منظماتنا الاهلية، التي كان لها دورها الايجابي المشهود في ادانة عنصرية اسرائيل في مؤتمر “ديربان” الاخير، يجب ان تتحرك وتأخذ بزمام المبادرة مستثمرة علاقاتها بمختلف المنظمات الاهلية الاخرى في العالم، وداعية الى تحالف آخر ضد الكراهية، مواز لذلك الذي تدعو اليه واشنطن ضد الارهاب علما بأن الكراهية تعد من اشكال الارهاب، وتجلياته اليائسة.
فهمي هويدي