القدر معناه العلم الإلهي بما سيقع وفق الأسباب المتوفرة
لا يمكن أن يتم إيمان الإنسان إلا إذا سلّم بقدَر الله عز وجل، والقدر كما تحدث عنه العلماء في العقيدة هو عبارة عن علم الله عز وجل وتقديره للأشياء كيف تقع وفي أي وقت تقع، بمعنى أن الله تعالى قدَّر الأشياء ووضع لها نو اميس وضوابط وأسباب تؤدّي إلى مسببات وكتبها سبحانه وتعالى في الأزل عنده، هذا القَدَرُ هو عبارة عن تسجيل هذه القوانين الطبيعية. والقدر ليس معناه إجْبَار الناس على فعل شيء من الأشياء، ولكن معناه العِلْمُ الإلاهي بما سيقع إذا توفرت الأسباب والمسببات. فالله تعالى يعلم ما سيقع في المستقبل ويقدّر ذلك لديه، ولكن هذا كلّه ليس له صلة بما يتّصل بالإرادة الانسانية، أي الإرادةُ شيء آخر. فلذلك قالوا : إن العلم أو القدرة المعبّر عنها بالعلم هي صفةُ انكشاف وليس صفة إلزام، أي أنّ الله تعالى عَلِم ما سيقع في مصائر العباد لأنّه عالم بما سيقع، وهو ليس كعلمنا المحدود، فعلم الله المحيط الشامل هو المكتوب لديه في الكتاب الأزلي المبين.
الإيمان بالقدر ركن من أر كان العقيدة الإسلامية
فهذا القدر : نؤمن به ونسلم به جميعا ولا حقّ لإنسان في أن ينكره، فمن أنكره فقد خرج من العقيدة الاسلامية ،فهو يرشدنا إلى صفة من صفات الله تعالى وهي صفة العلم، أمّا أن يكون العلم ملزما للبشر بأن يفعل كذا وكذا فليس الأمر من هذا القبيل، ولعلّي مثّلت لكم في مرة من المرات بمثال مجموعة من علماء الفلك يدوّنون في كتبهم وفي بحوثهم أن خسوفا وكسوفا سيقع في اليوم كذا وكذا في المنطقة كذا وعلى الساعة كذا، هؤلاء العلماء درسوا الكون، وحركة الكواكب، حسبوا هذا الحركة وضبطوا اللحظة التي يكون فيها القمر في موضع معيّن وأن الخسوف سيقع في اليوم كذا وكذا وعلى الدقيقة الفلانية ولو على بعد 6 أشهر، فانتظرنا حتى مرت 6 أشهر وفي الوقت الذي حدد وقعت الظّاهرة التي تحدثوا عنها ووقع الخسوف أو الكسوف أو سقط مُذنب HARLY (هارْلي) -كما وقع فيما سبق- إذ ذكروا أن هذا سيقع في 6,22 دقيقة ووقع ذلك في 6,22 دقيقة.. إذن أي شيء نستفيد؟ نحن نتوصّل إلى نتيجة واحدة وهي أن هؤلاء ا لعلماء صار علمهم كبيراً، واستطاعوا أن يضبطوا هذه الحركة وأن يحسبوها حسابا جيّداً فانتهوا إلى هذا المنتهى فقط. لكن هل يستطيع عاقل أن يقول أن هؤلاء العلماء هم الذين فرضوا هذه الظاهرة لما أثبتوها وكتبوها؟ لا، إن وقوع الظاهرة وقع لأسباب أخرى خارجية ليست هي كتابة العلماء، أي ليس العلم هو الذي أدّى إلى وقوع الظاهرة، فهناك فرق بين العلم وبين ما يحدث، فما يحدث، يحدث لأسباب أخرى، والعلم الذي أثبت ذلك يثبت العلم لهؤلاء فقط.
الإيمان بالقدر يمنح المومن الرضى في كل الأحوال
إذن هذا الفهم ا لذي نفهم عليه القدر يعطينا أن في الكون قوانين ونواميس، وأن في الكون ضوابط، لماذا؟ لنكتسب في نهاية المطاف نوعاً من الإحساس بالرّضا لما يقع في الكون، فهناك حالتان تحصل للإنسان : حالة يحصل فيها على مآربه ومراده فينجح في الامتحان، يربح في التجارة، تتحسّن أحواله في مجالات متعدّدة، وحينئذ يكون شعوره شعوراً خاصا. وقد تقع الأخرى فتفُوته مصالح ويخسر في الامتحان وتذهب أمواله وتضيع ثروته وتذهب منه أشياء وأشياء أخرى وفي هذه الحالة يكون شعوره شعوراً آخر، فإذا لم يكن هذا الأمر منضبطاً مع الإيمان بالله عز وجل فإنه يخسر في الحالتين. إذا فهو ربح وجمع كثيراً من المال ولم يكن له صلة بالإيمان، فإن الذي سينتقل إليه هو حالة البَطَر وحالة من التكبّر وحالة من الاعتزاز بالنّفس وحالة من التجبر وقد يخرج عن الحدود فيصير طاغية من طغاة الأرض هو كثير في الناس، وقد تحدث الأخرى فيشعر الإنسان بأنه خسر كذا وكذا فييأس ويقنط ويتسخّط وربما ينتحر إذا فقد الصلة بالله، إذن ففي كلتا الحالتين معا لا يجب أن يحدث هذا الأمر.
لا يرضى الإسلام للنّاس أن يحصل منهم البَطَر، لأن الإسلام لا يحبّ للناس أن يحصل منهم البطر والطّغيان في حالة الحصول على المكاسب، ولا يحبُّ الاسلام كذلك للبشر أن يقع منهم اليأس والقنوط وأن يدمّروا أنفسهم، في الحالتين معاً، لماذا؟ لأنهم يعلمون بحكم إيمانهم بالقدر أنّهم حين نجحوا فقد نجحوا لأن هناك قدَراً إلاهيا مرصوداً وأن هنالك أسبابا تؤدي إلى مسبباتها، وأن النّجاح يتطلب الاجتهاد الضروري وقد اجتهدوا، وأن هنالك مقدّمات والله تعالى وفقهم لذلك، إذن فهم متعقلون ومدركون للخطوات التي يجب أن تُفعل للوصول إلى النجاح، وهم في الطريقة الأخرى إذا فشلوا يعلمون بأن هذا الفشل لهم فيه دور ولهم فيه تدبير كذلك، فهم إما أن يكونوا قد فرّطوا، أو أنهم قد أضاعوا، أو أنهم أساؤوا التقدير، وفعلوا أشياء أدّت إلى هذا الأمر. إذاً فالأمر في الحالتين معا مربوط باحترام الأسباب التي تؤدّي إلى مسبباتها، وفي الحالتين معا، لا فالإنسان ليس من حقه أن يدمّر نفسه إذا فشل، ولا من حقّه أن يطغى ويتجبّر إذا هو نجح {ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُم إلاّ فِي كِتَاب مِنْ قبل أَنْ نَبْرَأَهَا إِنّ َذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِير لِكَيْ لاَ تَاسَوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بما آتَاكم}(سورة الحديد) إذاً فالنتيجة هي عدم الحزن على ما فات وعدم الفرح -وهنا ليس بمعنى السرور، وإنما بمعنى الطغيان- بما أوتيَه الإنسان، وحينئذ يبقى الإنسان في درجة معقولة. ويبقى الإنسان في درجة الإنسانية الصالحة له ويتجاوز المراحل كلها، ومرحلة النّجاح بنفس مطمئنّة وبنفسية متّزنة.
الإيمان بالقدر هو العُدَّة والزاد للمسلمين ليؤدُّوا رسالتهم
إن الإيمان بالقدر عندنا جَرّأنا نحن الأمة الإسلامية على أن نقتحم الصّعاب وعلى أن نقتحم المشاكل وأن نجوب الأرض وأن ندخل معركة الدفاع عن الحق وأن نجاهد وأن نبني وأن نفعل أشياء كثيرة لأننا نعلم أنا لن نموت قبل أجلنا، لن يقع لنا شيء لم يكتبه الله لنا، فهذا أعطانا قوة ومدداً وقوة خطيرة جداً استطعنا بها أن نواجه الصعاب. وهذا فقط الذي يفسّر كيف أن الأعداد القليلة من المسلمين كانت تواجه الجماهير والجيوش الكاسرة في حروب الفرس وفي الحروب الأخرى، فتكون النتيجة في النّهاية انتصار الاسلام وتدمير وسحق الجيش الكاسر، فميزان القوّة لا تأثير له حينذاك لأن هؤلاء يٍُْقدمون بأنفسهم علما منهم أنّهم لن يموتوا قبل آجالهم، وأولئك متخوّفون ظانّين بأنهم إن اقتربوا إلى ساعة الوغى قرّبوا أنفسهم إلى الآخرة، وفرق بين هؤلاء وهؤلاء.
والان على المستوى الواقعي العملي يُخشى من الإسلام بسبب هذه العقيدة، فهذه العقيدة لا تقبل المساومة بل أصبحت تصنع الأشياء القريبة التي جعلت الغرب كلّه والكفر كلّه يطوق الإسلام ويحجّمه. إذ الإسلام أثبت أنه لا يمكن أن يُحَجّم بالسلاح، ولا يمكن أن يُحجّم بالقوّة العسكرية، لا يمكن أن يحجّم بشيء من الأشياء وإنما يحجّم بهاته الأساليب الجهنّمية، أساليب الدس والكيد والتفتيت والتشتيت للأمة الإسلامية والتفريق لها والتشكيك في العقيدة، هو الأسلوب الذي يمكن أن ينفع إذا فقدت الأمة عقيدتها، يُمكن أن يُفعل بها الأفاعيل وقد وقع في تاريخنا مؤشرات : -مؤشر الحرب في الشيشان- ومُؤشر حرب المسلمين في البوسنة، فقد قلبت الأوضاع كلّها، وقُلّبت الموازين كلّها وردّت كثيراً من الحسابات والتقديرات التي خمنتها ولا شك الأجهزة المتخصصة التي تتحدث عن استراتيجيات المواجهة للعالم الإسلامي.
إذن قضية الشيشان أبطلت الكثير من الحسابات وبينت كيف أن حفنة من البشر يمكن أن تصارع دولة عظمى من الدّول الكبرى، عندها أكبر ترسانة من السّلاح في العالم، تواجهها فئة مستضعفة صغيرة، وطبعا هذا لا يمكن أن يحسب من الناحية العسكرية والميدانية، ولكن يحسب بأن هذه النفوس نفوس فيها شيء آخر ليس في نفوس الملاحدة الروس، ليس في نفوس الكفرة ولذلك طبعا نحن أثبتنا عبر تاريخنا أننا لم نستطع أن تُنْجز شيئا كثيرا، لأنّنا كنا لا نعلم هذا الأساس : أساس الإيمان بالقدر.
تشويه قضية القدر هو الذي أضاع حقوق المسلمين ورسالتهم
ذهبت فلسطين كلّها، وذهبت أجزاء من العالم الإسلامي ونحن دائما نمطر العدوّ بالشعر وبالقصائد وبالكلمات الجارحة، ونحن نبكي دائما، ونتشكّى مرة ونتظلم مرة، والدنيا ماضية إلى حيث شاؤوا لها أن تمضي، فلا حقٌّ استطعنا أن نرجعه، ولم نستطع يوما أن ننتصر في قضية واحدة لأنّنا في كل تلك القضايا لم نكن نعتمد الإنسان المؤمن، وإنما كنا نحسب الحسابات المادية الفارغة التي جعلتنا ساقطين في المواجهة الأولى.
إذن فقضية القدر أيها الإخوة من روائع الإيمان ومن دواعي الخير في هذه العقيدة، فالذين يُسلطون عليها الأضواء من الشّباب ومن بعض الدّارسين وبعض المدرّسين المنحرفين، بعضهم يلقي بعض الدروس وبعض المحاضرات، وأول ما يتناول فيها قضية القضاء والقدر بالمعنى المشوه، مثل : الإسلام دين لا يمكن أن ينهض أصحابه لأنهم يؤمنون بالقضاء والقدر، والقضاء والقدر تكْبيل الإنسان، وهو يمنع اللسان من الحركة، ويمنع حرية الإنسان، ويمنع ويمنع..، ونحن ليس لدينا القضاء والقدر بهذا الفهم، ومن فهمه بتلك الطريقة فقد أساء الفهم، أما نحن فنؤمن بالقضاء والقدر الذي صنع خالد بن الوليد، ونؤمن بالقضاء والقدر الذي صنع الفاتحين الأوّلين، والذي صنع هؤلاء الذين نشروا الإسلام، هذا هو القضاء والقدر الذي نؤمن به. أما القضاء الذي يقول للناس : >اقعدوا على الأرض” فلا وُجود له لدينا في الإ سلام، هذا القدر عشنا به 15 قرنا وأعطانا نتائجه، وعشنا ما بعد الخمسة عشر قرنا بدونه ولم نحقق شيئا، فالأولى جرّبت فصحت وأعطت أولئك النّاس الذين لا يُجادل في كفاءاتهم ولا مقدراتهم ولا فيما أنجزوه لفائدة الإيمان، إذن هذا القضاء والقدر والتّصديق به يعطينا هذه الدفعة وهذه الشّحنة، ويعطينا هذه الانطلاقة نحو فعل الخير، وحينما يتحول الإيمان بالقدر إلى تلكُّإ إلى ضعف يكون سوء الفهم قد دخل إلى مفهوم القدر.
معنى ذلك أنك أنت الآن قد كتبت كذا وكذا في سجلك وفي صحيفتك ولابد أن تؤمن بهذا ولا تنكره، ولكن إذا أردت أن تنطلق إلى الخير فانطلق، وهل لك كتاب يأتيك كل صباح ليقول لك يا فلان إنك لن تستطيع فعل الخير لأن الله تعالى كتب لك في هذا اليوم الشّر؟ لا يوجد هذا الكتاب فمن أدراك أن الله كتب لك الخير أو الشر؟ هذا الكتاب ليس بكتاب نتوصل به، إن كان كتاب فهو في علم الله، وأنت ليس بإمكانك إلا أن تختار الأحسن والأفضل والأجمل والأكمل، فَأنْتَ إذا صلّيت الصبح في وقته، تعلم أن الله كتب لك في الأزل أنك في هذه الليلة أو هذا الصّباح أن تصلّي الصلاة في وقتها، ولكن إن نمت فأنت المسؤول عن نومك فلا تقل إنّني قد كُتب عليّ هذا لأنك لم تعلم أن الله قد كتب لك ألا تنام في هذا الصباح إلا بعد أن نمت. إذن ليست هناك لائحة تقول أن هذا العمل ممنوع عليك اليوم، أنت الآن تواجه المستقبل فافعل الخير وأنجزه وبعد أن تنتهي تعلم أن الله قد كتبه عليك. فمثلا إذا التقيت إنسانا يشرب الخمر ودعَوْته إلى الانتهاء منه، فقال لك : إن الله قد كتب علي ذلك فماذا أفعل؟ ، هذا الشخص ليس في نيته أن يتوب، أبداً بل يجب عليه أن يتوب وما علم أن الله قد كتب له ذلك!
دخل رسول الله على علي بن أبي طالب وقد أوى إلى فراشه وبكّر بالنّوم، فكأنه عتب عليه وقال ما منعك أن تقوم شيئا من اللّيل؟ فقال إن نفوسنا بيد الله، فإن شاء بسطها وإن شاء قبضها أي نحن ننام الان مبكرين ففي الصباح إذا شاء أطلقها وبسطها فنقوم في الليل مبكّرين فنصلي، وإن شاء قبضها فلم نصلّ، فنحن في قضاء الله لا نستطيع شيئا من ذلك، فلمّا سمع منه رسول الله ذلك غضب غضبا شديداً وخرج من عنده يضرب على فخده وهو يقول : {وكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}(سورة الكهف) فلم يقبل من علي بن أبي طالب اعتذاره بقضية القضاء والقدر لأنه أمام مسؤولية يجب أن يؤدّيها. وحُمِل إلى عمر بن الخطاب فيما يُرْوي سارق، ليقام عليه الحدّ، فسأله عمر لِمَ سرقت يا هذا؟ قال قدر الله كتب على أن أسرق، فغضب عمر بن الخطاب فقال اضربوه ثلاثين جلدة ثم اقطعوا يده، قال تُقطع يده لأنه سرق ويُضرب 30 جلدة لانه كذب على الله فلم يجعل ذلك حُجَّةً له. وقد قال علماء المسلمين فيما بعد لا حجة ولا اعتذار بالقضاء والقدر.
د. مصطفى بنحمزة