تمهيد :
في الوقت الذي يمكن فيه، تسجيل الاستقالة الجماعية، للأمم ذات الأديان العريقة -كاليهودية والبوذية والمسيحية خاصة- عن أشكال التدين، والتبرؤ من صوره، لفائدة العلمانية بكل تمثلاتها الأيديولوجية، وأيضا لفائدة الطروحات الأممية لحقوق الإنسان وغيرهما، يمكن أن نؤكد أمرا بالغ الأهمية، وهو وجود أمة تستعصي على الخضوع والتنازل عن ما تنعته بالمسلمات الدينية، التي لم ينقص منها شيء رغم مرور أكثر من أربعة عشر قرنا عليها، بل لم تزدها هذه القرون سوى رسوخا وثباتا !
يمكن القول باطمئنان ويقين، إنه ليس هناك أمة استطاعت التمسك بتعاليم دينها مثل ما فعلته أمة الإسلام. إذ رغم تجاوز كثير من أحكامه وأخلاقه، على مستوى الفرد والجماعة، فإن تعاليمه، احتفظت بقداستها، وبقيت مهيمنة بل ومحكمة. وهكذا، أضحت الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تستقطب أوسع الشرائح الاجتماعية، من المثقف العالي التكوين، إلى المواطن العادي ذي التكوين العلمي البسيط، وحتى الأمي. كما أصبحت المطالبة بإسلامية كل القطاعات والميادين، وحتى الحقول المعرفية، غير مقتصرة على بلد دون آخر، أو على قارة دون أخرى. الأمر الذي يستدعي التوقف لإدراك كنه الحقيقة القابعة خلف هذا الالتزام المتناهي.
ومن دون شك فإن الدوافع، بالنسبة للعلماني، ستكون سياسية محضة. وسيلخصها في الأخطاء والإخفاقات المتتالية للعلمانية، على الصعيدين المحلي والدولي.
والرد بسيط للغاية: إن في الهروب من صور للعلمانية إلى أخرى يمينية أو يسارية أو وسط بينهما، ملجأ آمنا من الملاحقات والمداهمات، صاحب المطلب السياسي المحض هو في غنى عنها.
فلماذا، إذن، هذا اللجوء والالتزام والتشبث القوي بالتعاليم والتعبيرات الإسلامية بالضبط، وليس بغيرها؟
إن السبب الحقيقي، في تلك الجاذبية والصدق، التي يتمتع بهما الإسلام، والتي تملك وتسيطر طوعا أو كرها على العقل والعاطفة والسلوك جميعا.
ويمكن اعتبار رمضان من أقوى الدلائل على هذه الجاذبية وهذا الصدق. إذ يجسد من السحر والبهاء ما يشد المتأمل، والناظر البسيط على السواء، ويحملهما على العجب ثم الانجذاب.
فهو الشهر الذي خصه الله تعالى، من بين الشهور، بالأفضلية وبالتنزيل، وبليلة خير من ألف شهر، ورفع فيه فضل ودرجة الفريضة والتقرب إليه -أكثر من الشهور الأخرى. قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(1).
وعن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس في آخر يوم من شعبان، فقال: (يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضةفيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه) إلى أن قال: (فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين تُرضُون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما. فأما الخصلتان اللتان تُرضُون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار. ومن سقى صائما، سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة)(2).
- فإلى أي حد يمكن الحفاظ على هذا الامتياز الذي حَبَانَا الله سبحانه وتعالى به؟
-وإلى أي حد سيبقى هذا الشهر متألقا في نفوس المسلمين؟ ومن ثمة، إلى أي حد سيبقى هذا الدين عظيما في أعين أهله؟
لماذا الامتداد؟
سؤال له تعلق مباشر بالأسئلة السابقة، عن عظمة هذا الشهر. لذلك لا بد من بسطه لاستعراض وتلمس بعض المقاصد التي شرع رمضان لأجلها:
- لدى الكثيرين -ممن يقفون عند رمضان، وقفة أرادتها وخططت لها العلمانية، وجسدوها بوعي أو بدونه-، أن رمضان أيام معلومة يكون فيها المرء مغلولا مكبلا، يتم الإفراج عنه بمجرد الإعلان عن يوم عيد الفطر. وبمجرد ذلك الإعلان يعود المقلع عن المحرمات إلى ارتكابها، صبيحة عيد الفطر. فلا حديث عند هذا الصنف عن الامتداد الروحي لرمضان أصلا. وإن الحديث عن الامتداد، لا يعدو أن يكون كلاما فاقد المعنى.
- أما بالنسبة للمؤمنين، فلا يبدأ الامتداد مع بداية الصوم، إنما يشرع فيه مع التهيؤ لرمضان. أي: إن الإعداد والاستعداد النفسي والمادي جزء من هذا الامتداد. ويستمر خلال شهر الإيمان والتزكية والبركة. ثم إنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل يجاوزه، إلى أن تلقي ظلال رمضان العطرة بتأثيراتها الرائعة على المؤمنين إلى رمضان الذي يليه. إذا استشعر المؤمن حجم العهد الذي طوق به نفسه، تجاه رب العزة سبحانه. ثم يتزود لنفسه من رمضان الثاني لرمضان الثالث، وهكذا دواليك، إذا قدر الله للعمر امتدادا.
إن المؤمنين إذا جاوزوا التعاطي الآلي الميكانيكي مع رمضان، إلى الانسجام والتناغم معه، فسيحصل لهم من التزود ما يمتعهم ويحلق بهم، في رحاب الإيمان. وهكذا يبقى استصحاب الحالة الإيمانية الرمضانية، مستمرا لا يفارقهم.
والدليل على أن لرمضان اتصال بالفترة التي تسبقه، ما روى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أيضا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)(4).
وقال صلى الله عليه وسلم، أيضا: (من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ، كفر ما قبله) (5).
ويمكن أن نخلص، مما سبق، إلى ذكر مستويين لامتداد شهر رمضان:
< الامتداد الأفقي :
ويمس المستوى الزمني، الماضي والراهن، والمستقبل. والمقصد منه معالجة أو تصحيح الأخطاء التي وقعت في الزمن الماضي أو الحاضر. أو التزود والطمع في فضل الله تعالى، في ما سيأتي من حياة الصائم مستقبلا. فالصائم لا يرغب في تسوية وضعه الحالي فقط، وإنما الرغبة في رضى الله تعالى مستقبلا، إما في الدنيا أو الآخرة، هي المقصد من صومه.
إن طلب المغفرة والصفح منه سبحانه، لأجل إثم سابق، هو أمر مطلوب. ولكن الشكر لله تعالى، وابتغاء مرضاته بالتقرب أكثر ، أشد إلحاحا على المؤمن الصادق. فقد كان عليه السلام، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أعبد الناس وأكثرهم إقبالا على الله. وحين روجع في الأمر للتخفيف على نفسه، قال: (أفلا أكون عبدا شكورا؟)(6).
إن الماضي والحاضر والمستقبل، أمر له صلة باللحظة التي يكون الصائم فيها صائما، مستحضرا ماضيه، طالبا قبول عمل الحاضر، بغية تحصيل الحظوة مستقبلا.
< الامتداد العمودي :
إن الاعتناء بالامتداد العمودي، يمس المستوى المكان والأشخاص، لتصحيح الراهن السلوكي الآني فقط. أي الاهتمام بالأفراد والمؤسسات والمجتمع، لتصحيح أخلاقهم وسلوكهم، في اللحظة التي يعيشونها، بغض النظر عما سبقها من ماضي، أو ما ستعيشونه مستقبلا.
إن هذا الانشغال بهذه الشرائح والمؤسسات، وهؤلاء الأفراد، يفرض التعاطي العلمي مع جملة المؤثرات التي تجعل رمضان يترسخ لديهم انطلاقا من هذه اللحظة. ومعناه ضرورة مراجعة المناهج التي سيتم التعامل بها معهم، من أجل ترقية سلوكهم الحالي.
وهكذا، فالامتداد الروحي لشهر رمضان، مشروع متكامل الأركان، ومنهج في التغيير فريد من نوعه، يتيحه شهر التبتل، رمضان وحده، دون الشهور الأخرى.
هذه الهالة الروحانية التي تهيمن على العقل والعاطفة والسلوك -إذا تم استثمارها على الوجه المطلوب، طبعا-، من شأنها إحداث النقلة المرجوة، على مستوى الأفراد والمؤسسات وحتى المجتمع.
لذلك، لا بد من هيئات -جمعيات أو لجان أحياء مثلا توسع قواعدها لأفراد المجتمع كله، كل حسب قدرته ومؤهلاته ليسهم الغير في الخير-، تفكر في طرق ووسائل أجرأة هذه الأهداف والمقاصد، حتى يؤتي رمضان أكله ويحقق الغرض من تشريعه.
حقائق شهر رمضان
< شهر التقوى :
لا شك أن الآية، القرآنية أحالت على المعنى الحقيقي من رمضان، وهو أنه شهر للتقوى، لا غير. قال تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون}7).
< الصوم دورة تربوية :
وبما أن شهر رمضان هو شهر للتقوى فهو فرصة لتهذيب النفس وتربيتها على الخشية من الله تعالى في السر والعلن، إذ لا رقيب على الصائم سوى ربه، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن رب العزة سبحانه وتعالى: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها) (8). وقال عليه السلام كذلك: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به) (9).
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (10).
وقال كذلك: (وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم)(11).
فليست القضية قضية حرمان من الشهوات بأنواعها، وإنما المقصود تحقيق الأهداف السلوكية كالتخلي عن الأخلاق الفاسدة. والتزام آداب الصيام، والبعد عن تفلت الأعضاء والجوارح، وكف اللسان عن الجهل بالقول.
هذه هي حقائق رمضان، وعلى من لم يتذوقها ويشعر بها في نفسه أن يتهم نفسه، ولا يتهم المحيط، أو الناس، أو الزمن، فليس أحد منهم سيكون معه يوم القيامة ليعلق عليه إخفاقاته.
ولذلك عرف العلماء الصوم بأنه: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع نية الصوم، في نهار لا يحرم صومه(12).
مشكلة قائمة
عدد لا بأس به من المؤمنين يشتكون الإفلاس التربوي ثم التساقط أحيانا، نتيجة فقدان الأجواء الروحانية. وتجدهم يَحِنُّون إلى أيام الدفء الأخوي، وساعات التضحية، ولسان حالهم يقول: إننا لم نعد في المستوى التربوي السابق حيث كانت النية والإخلاص!!
الحل ممكن
إن الحلول لا تأتي من فوق، ولا دفعة واحدة، بل قطرة قطرة، يمتلئ المصب، ويصير رطبا ذلك القلب الصلب. والآن، المؤمن الحق أمام المحك. والفرصة الذهبية أتت إليه حبوا وهرولة: فورش الشر يغلق، ويصفد سدنته. وأوراش للإيمان تفتح مشرعة ومتعددة، شهرا كاملا غير منقوص، ليجد فيها الطالب الراغب مناله وملاذه، للتدرب على هذه التربية المفقودة.
إن هذه التربية هبة ربانية، واكتساب أيضا، يحصل بالتعهد والمتابعة والمصاحبة والمجاهدة، قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}(13).
إن رمضان، بما يمتاز به خصائص لتزكية النفس، والرقي بها إلى أعلى المراتب، يمنح هذه الفرصة، ويرفع المشكل، إذا صدقت النيات. وإن من بين هذه الخصائص والإجراءات التي يمكن تلمسها في رمضان، ما يلي:
تدابير وإجراءات
إذا كان من خواص رمضان أن تغلق وتوصد أبواب الشياطين، فإنه يتميز أيضا، بتعدد أوراش التربية الجهادية التي تسمح بتحصيل كل الخير.
1- إغلاق أوراش الشياطين :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير اقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)(14). إن أبواب النار إذ تغلق، والشياطين إذ تصفد، لا يبقى للمؤمن ما يواجهه غير الهوى وتطلعات النفس، وشياطين الإنس. وهذا يحصر دائرة الاعتراض بكل تأكيد على السلوكات التي سيأتيها المؤمن خلال هذا الشهر. الأمر الذي يمكن من الاستعداد الجيد لرمضان. وبسبب هذا الإغلاق وهذا التصفيد، نرى كثرة الإقبال على الله تعالى في هذا الشهر.
2-ورش الصلاة والقيام :
قال صلى الله عليه وسلم : (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان، غفر له ما تقدم من ذنبه)(15).
إن الصلاة والقيام مع المؤمنين في المساجد، فرصة للتحليق بعيدا وسط الأمواج الروحانية، خلف الإمام في التراويح. يتمتع المؤمنون بفرصة هي أقرب إلى الله تعالى، وهي لحظة السجود الجماعي (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)(16).
ولا شك أن للصلاة والقيام بهذه الصور، ثمرات كثيرة، يستشعرها المؤمن. ومنها:
< الأخوة والمساواة والوحدة من ثمرات الورش :
ما من شك في أن المسلمين -من المشرق إلى المغرب- في الصلاة، يجسدون أرفع وأرقى معاني الأخوة والمساواة والوحدة، فيما بينهم:
أخوة ومساواة ووحدة في الصف الواحد، كأننا جدار واحد، كل يمثل فيه لبنة، من الغني إلى الفقير، ومن الكبير إلى الصغير. مساواة أمام الله في مشهد تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة، مشهد نُذكر، عند الله، في ملئ خير منه إن شاء الله تعالى. متساوين في التوجه إلى رب واحد رب العزة سبحانه. متساوين في دعوة رب واحد، شطر قبلة واحدة، بكلمات واحدة، التكبير موحد، والاستماع موحد، والركوع موحد، والرفع من الركوع موحد، والسجود موحد، والتسليم واحد، أنت أنا وأنا أنت. وأنا، وإن جئت إلى الصلاة وحدي، إلا أنني لست وحدي، بل كل الذين يشهدون هذه الصلاة معي فكأنهم أنا وكأنني هم. قال تعالى (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)(17).
هذه الصورة للأخوة والمساواة وللتوحد والوحدة، لا تظهر فقط في البلد الواحد، أو الجهة الواحدة، بل تبرز عند المسلمين جميعا من المشرق إلى المغرب، من الشمال إلى الجنوب. الكل يحس بالكل، إخوة كأننا نزلنا من بطن واحدة. نتشفع بالدعاء له تعالى فرادى وجماعات، نلتمس الخير للجميع. لا فرق بين الطبقات والشرائح الاجتماعية، الكل إخوة متساوين متحابين.
إن معاني المساواة والوحدة، التي تحيل عليها الصلاة والقيام بهذه الهيئات الجماعية، تذكر بيوم العرض على الله تعالى. هذا اليوم الذي لا بد أن يأخذ حقه الكبير من العناية لدى كل مؤمن. فكما نحن مجتمعون في الدنيا بهذا الشكل سنكرر الاجتماع أمامه سبحانه يوم القيامة.
إن شهر رمضان هو شهر وحدة المسلمين في العالم كله بامتياز. يحق للكافر فيه أن يخشى على نفسه من هذه الأمة، إذا توحدت، ورأى أئمتها أن عليها الخروج دفعة واحدة، كما في الصلاة، لمواجهة الشر ولرد العدوان. وهذه التضحية التي يحيل عليها رمضان تتجلى من خلال أهم الأحداث التي عرفها تاريخ المسلمين، التي في هذا الشهر، كما تتجلى في حجم المرارة التي يتجرعها العدو اليهودي، من أبطال المسلمين في هذا الشهر. فلو عادت هذه الاعتبارات لهذا الشهر، فستنقلب الكثير من الموازين بكل تأكيد عالميا!
هذا، وإن شهر رمضان يعتبر ورشا للانفراد والتفرغ لعبادة لله تعالى وللاعتكاف في المساجد، في العشر الأواخر من رمضان. وهو أهم الأوراش لاقتناص فرصة ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر. قال صلى الله عليه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ … وصلاة الرجل في جوف الليل). ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى(18): {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}(19). فكيف إذا صادفت صلاة الرجل، في جوف الليل، ليلة القدر نفسها، وكانت الأبواب مفتوحة، هل سيكون ذلك من أبواب الخير فقط، أم أكثر من ذلك؟
3-ورش الصيام والخدمة :
بالإضافة إلى أن الصيام ستر وحماية ووقاية للصائم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)(20). وقوله: (والصيام جُنَّة)(21)، فإن الصيام هو شهر الرحمة والجود والتكافل. فقد روي “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود بالخير من الريح المرسلة”(22).
إن رمضان يُنْسي الفقر إلى الناس، ويوجه الافتقار والفقر والاحتياج إلى الغني وحده سبحانه.
إن صور التكافل والتراص، تتملك كل الحواس، في رمضان، وتنسي الفرد جوعه وهمومه، وتدفعه إلى مزيد من الحمد والشكر، لله تعالى الذي عافاه من الفقر والفاقة، التي ابتلى بها غيره.
وإن الانخراط الواعي والمباشر في عملية الإنفاق والتكافل الاجتماعي والشعور بالآخرين، تدعو إلى تحسيس الفرد بهذه اللقمة الزائدة على حاجته، وهذه الأموال المكدسة.
إن الكثيرين في حاجة إلى أقل منها، فلا تحرمهم وتحرم نفسك من فضلها. ومَن مِنَّا في غنى عن فعل حسنة بصدقة تحط عنه الذنب. فقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ ابن جبل رضي الله عنه: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)(23). وقال عليه السلام أيضا: (من فطر صائما كان له مثل أجره)(24).
أ- من ثمرات الخدمة والصيام :
لا شك أن للخدمة والصيام بهذه الصور، ثمرات كثيرة، يستشعرها المؤمن. وهي تمثل المغزى الرمضاني من الإمساك عن الأكل والشرب، ثم خدمة المحتاجين. ولها تجليات عديدة، نقتصر على البعض منها:
- الأول: الشعور بالذين يفتقدون حتى اللقمة.
- الثاني: العمل على المشاركة العملية، في التخفيف، علىالأقل، من هذا الابتلاء، وذلك بالمساهمة الفعلية، والحضور أيضا في هذا الحقل.
- الثالث: الحمد والشكر، وطلب المغفرة وحط السيئات والقبول. مما يبرهن على الافتقار إلى الله وحده سبحانه.
- الرابع: إن لرمضان نفحات لا تقاوم، منها، تحصيل رقة القلب بالعيش ولو للحظات وسط الفقراء والتضامن معهم، والانضمام إليهم. إن رمضان في صورة الصيام والخدمة، علاج عملي فعال للنفس، وترويض طوعي لها على الارتقاء بالروح إلى الأعلى، إلى السمو. ولن يكون ذلك سوى بالانخراط التطوعي المؤسس على الرغبة الخاصة والخالصة للفرد.
- الخامس: اكتساب خصلة الصبر، على ما يصيب النفس من هموم، لا تصل درجتها إلى ما وصلت إليه نفوس الآخرين. واكتساب خصلة الصبر على الجوع الذي يصبر عليه الملايين يوميا. إن القناعة بالقليل، هي أولى المسائل التي يجسد الصائم بها المطلوب من هذه الشعيرة. فيدرب النفس على الاقتصار على الموجود وحمد الموجد سبحانه. وهذه الخصلة أيضا، تعلم الصائم الاقتصاد على ما يملكه، والاقتصار على المطلوب، الذي لا يصنع منه إنسانا ديكتاتوريا إلهه هواه وشهوته، من أجلهما يحوز كل شيء، وبلا شيء، كالحيوان الذي لا يقيم وزنا لغيره، بل همه بطنه فقط. إن خصلة الصبر التي تعلم الاقتصاد، تجعل الصائم يفكر بجد في طرق الاستثمار الحقيقي، والمتاجرة الحقيقية مع الله عز وجل، بالتصدق على الآخرين فيما زاد على حاجته. دون إسراف ولا تقتير، طبعا، قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)(25).وقال تعالى أيضا: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)(26).
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المظاهر الحالية، في الاعتناء بالأكل في رمضان، وهذه الحلة البهية التي تتدثر بها مائدة الإفطار، جراء ألوان الأكل والشرب، لا علاقة لها برمضان شرعا. إنها على العكس مظاهر تُنسيك الفقر والفقراء، وتجعلك تترقب بشغف كبير اللحظة التي تنتقم فيها من هذه السويعات التي لم تأكل فيها شيئا. إن هذه الصور لا تفي بالغرض المقصود من الإمساك عن الأكل. لذلك لا بد على الأفراد والجماعات من إعادة النظر، فرادى وجماعات، في الطرق التي تدخر بها هذه الأموال وهذه اللقمات، لمن هو في أمس الحاجة إليها. ولا بد من إحداث لجان في الأحياء تساعد على ذلك بالتخطيط لإفطارات جماعية لأبناء وبناة الحي الواحد، يتعارفوا في المسجد ويأكلوا فيه، ويلتفون حول فقرائهم، لامتصاص هذه القطيعة والتفرقة التي لا تخدم سوى العلمانية. قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(27).
ب- رمضان والصحة :
لا شك أن الصحة والعافية، من بين أهم الثمرات التي يلمسها المؤمن الصائم على الوجه الشرعي. قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا تصحوا)(28). وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: (ما ملأ آدمي وعاءا شرا من بطن. بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)(29).
إن رمضان فرصة لمحاربة الشره والتخمة. وهما مرضان يُفَوِّتان الخير على صاحبهما وعلى الناس المحتاجين. والمطلوب أن يكون هذا الشهر مظهرا للصحة الجيدة، والعافية في البدن، لأن الرسول عليه السلام أكد ذلك كما سبق. ولهذا ففي حالة وجود إصابات بمرض في رمضان بغير الأسباب المعقولة للمرض والخارجة عن الطاقة، يكون المصاب غير ممتثل ولا متمثل للمقاصد من رمضان. وعلى الإنسان، في مثل هذه الحالة، أن يتهم نفسه.
كما الجدير بالذكر في قضية رمضان والصحة، هو أن المدخنين، وأيضا الذين يتعاطون المخدرات بكل ألوانها، يقدمون البرهان على قدرة هذا الشهر على تجاوز حالهم وتمتيعهم بالصحة. فالذي يصبر على هذه الآفات خلال الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بإمكانه بقليل من الإيمان والإرادة، أن يتخلص وإلى الأبد من هذه الخبائث. ولا يتسنى له تقديم الدليل على ذلك سوى برمضان وحده. فصوم رمضان فرصة للمبتلين بهذه الآفات، وحجة عليهم، في أنهم بإمكانهم الإقلاع.
ثم إن من ثمرات هذا الشهر الأبرك على الصحة، أن الصيام إذ يمنع من شرب المخدرات، يفرض حضور العقل لدى الناس في كل لحظة، الأمر الذي يفسر قلة حوادث السير في رمضان، ومن ثمة قلة تهديد صحة وحياة الإنسان، التي لا يعار لها اهتمام في غير الصوم، حيث يسمح بالخمر والمخدرات وفتح الحانات.
وكذلك من وجوه الخدمة، التي يمكن إقحامها في هذا الشهر وفي غيره، والمتعلقة بالصحة، فرصة تخصيص أيام لحملات التبرع بالدم في الأحياء، نحيي بها القلوب التي تنتظر هذه القطرة م الدم، قال تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)(30).
4-ورش التكوين القرآني :
إنكثرة الدروس والمواعظ، وحلق قراءة القرآن، تجعل من رمضان شهر للمؤتمرات العلمية بامتياز. وعلى رأسها هذه المؤتمرات، مؤتمر القرآن الكريم كتاب الله تعالى. الذي يسكن الناس، على غير العادة، فيسمعونه يتلا في كل موقع: في الدكاكين والإدارات والمؤسسات والشوارع. هذا دون الحديث عن تلاوة عمار المساجد، وفي البيوت. والسبب أن القرآن شافع لصاحبه، قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة)(31). وقال كذلك: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة. والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)(32).
يجد المؤمنون في رمضان من الأجواء الإيمانية فرصة سانحة لحفظ القرآن أو تأمله، أو مراجعته، وعلى الأقل قراءته.
وهذا الاشتعال الإيماني، الذي يحدث للناس، يُمَكن من الاقتراب من القرآن أكثر، علما وعملا. ولو تم توظيف وتوجيه هذا الاشتعال والشغف والاشتغال بالقرآن، على الوجه السليم، لكانت الحصيلة غير متوقعة: أعداد هائلة من المتمسكين بكتاب الله تعالى، الواقفين عند حدوده. ولن يتأتى ذلك سوى بهذا الامتداد الذي يصنعه رمضان الأبرك.
بقي، لمزيد من التحفيز على هذا الخير، أن تُحدَث لجان تنظم المنافسة بين الأحياء أو حتى البيوتات، وتَرصدُ هدايا ولو رمزية للمتنافسين.، كي يصبح هذا تقليدا رمضانيا بحتا، لا يذكر رمضان إلا به، تعميما للسنن الحسنة. قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء)(33).
5-ورش الذكر :
لا شك أن توالي المواد التربوية؛ من قزاءة للقرآن إلى الصلاة والصيام والأذكار المعروفة، ومن خدمة للناس -وكلها لله سبحانه-، تسمح للسوي بأن يتزود لنفسه بما يطمئنها، كما تسمح بشكل كبير لمن له مشاكل نفسية بأن يلجأ إليه سبحانه وتعالى بهذه الأنواع من الأذكار، التي تخفف على النفس وتطمئنها. قال تعالى: {ألا بـذكـر الله}(34). (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ من الناس ذكرته في ملأ أكثر منهم وأطيب)(35).{(اذكروني أذكركم}36). إن رمضان علاج نفسي بكل المقاييس. وهو فرصة للإقلاع عن مجموعة من العادات الأخلاقية السيئة، التي يجد المبتلى بها فرصة الانقطاع عنها لمدة طويلة دون أي مشكل. ومعنى ذلك أن توقيفها أمر ممكن بل واجب. وهذه فرصة يقوم فيها الفرد بالتخلية والتحلية: تخلية نفسه من مثل هذه التصرفات والعادات والأخلاق السيئة، وتحلية نفسه بما ينفعها من ذكر وجِدٍ ورياضة، قد تغنيه عن هذه المهلكات، إن لم تذهب به بعيدا لتحقيق تهذيبٍ وتزكيةٍ أكبر بالاقتراب من الله تعالى، بسبب تذكره لله سبحانه وتعالى في كل لحظة.
إن دوام ذكر لله تعالى، يجعل اللسان رطبا بما يرضي الله، ويملأ قلب المؤمن بما لا يسمح له بالاشتغال بغيره. فلايصدر منه سوى الخير.
إن ذكر الله أمر مطلوب حتى لا يرفث المؤمن أو يفسق أو يصخب. فإذا اعتدي عليه تذكر فذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (إني امرؤ صائم)(37). وهذا من حسنات الذكر والتذكر لله تعالى، التي تجسد الانضباط لمقتضيات هذه الشعيرة.
إن التزام آداب الصيام وأخلاقه، يعطي لالتزام وللانضباط معناهما الحقيقي. ويرفع من شأن الملتزم الصائم الذاكر لله.
6-ورش الترفيه بما يرضي الله :
إن الإفطارات الجماعية للجنسين -طبعا، النساء وحدهم، والرجال وحدهم-، يمكن أن تشكل محطة وحملة للتعارف بين المؤمنين، ترفه عن النفوس، وتزيد تعلقا بهذا الدين الذي يُمكن أن يصنع الكثير لإسعاد أهله، باقتراب بعضهم من بعض، ومن ثمة تجسيد التعاون على الخير والبر والتقوى. وسيكون لهذا السلوك الرمضاني امتداد إلى ما بعده، بمزيد من ربط الصلة بالناس خارج رمضان نفسه، وتحقيق التواصل والامتداد الروحي الذي جمع الناس خلال هذا الشهر.
ولا شك أن حضور الأنشطة الثقافية كالمحاضرات والندوات، هي بمثابة الحضور في المؤتمرات العلمية التي تعالج مثل قضايا رمضان والصحة، والآفات الاجتماعية، والغزوات، وأهم الأحداث التاريخية الرمضانية. ولا شك أيضا أن الحضور لمعارض الكتاب، يمتع الزائر ويمكنه من فرص للتزود العلمي بما يرغب فيه من الكتب. وهي إلى جانب أنها فرص للتكوين، فإنها أيضا فرص للترفيه وللخروج من رتابة العيش السنوي من البيت للعمل.
كما أن أفضل فرص للترفيه المعروفة هي حضور المسابقات الرياضية، وألعاب الأطفال، وكذلك المهرجانات، التي تتغنى بالرسول عليه السلام، وبغيره، مما يرفه على النفس ويجدد الدم فيها للكد والجد، ابتغاء مرضاة الله تعالى.
7-ورش صلة الرحم :
هذا الورش واجهة أخرى للتراحم ولمعرفة المعوزين من الأقارب ومساعدتهم. إنه فرصة لتجديد أواصر القرابة، التي تتعزز في رمضان، وتجعل من رمضان انطلاقة للسنة كلها. وبهذا يحقق رمضان الامتداد الأفقي والعمودي المرجوان. وهو يحتاج وقفة خاصة.
8- خلاصات :
أ- تقاليد رمضانية :
كل هذا ليكون لرمضان تقاليده الربانية التي يعرف بها، وتتطلع إليه عيون الجميع صغارا وكبارا. وبه يرفع ما ألصقته به العلمانية من أشكال وألوان وتقاليد، خارجة عن شرع الله. وذلك حين أفرغت الصيام من معانيه ومحتوياته ومقاصده، وجعلته فرصا للرقص والأكل بدلا من الإقبال على الله تعالى. لذلك لا بد من إحداث جهة أو جهات تعمل على وضع بديل إسلامي في رمضان. يحدث القطيعة مع الصور المشوهة المشبوهة العالقة بالإسلام عموما وبرمضان خاصة. ووضع بديل يعيد رمضان إلى روحانيته، بمراعات المقاصد والأوراش السالفة الذكر. أوراش تجعل لرمضان امتدادا فينا ومعنا خلال السنة كلها نرتقبه بشغف ونتطلع إليه كما نتطلع إلى الخير كله.
ب- انتهاز فرصة ورش الأوراش :
سيخرج رمضان، بالتأكيد لأن دوام الحال من المحال. فهل سنحياه مرة أخرى كي نغتنم ما فاتنا فيه اليوم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (وخذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك)(38).
إن رمضان مدرسة متكاملة للتربية والمجاهدة، لا تخدم ولا تصب سوى في الورش الأكبر: ورش الخلق القويم، الذي ربى عليه محمد، عليه السلام، صحبه.
رمضان، إذن، مشروع متكامل للعسكرة والبناء والتكوين من أجل فرد صالح ومن ثمة جماعة صالحة، فمجتمع صالح.
إننا حينما نثبت أننا سعداء بشهر الصبر، نؤكد على أننا قادرون على الصبر شهورا أخرى.
وإذا كنا من الصابرين لمدة شهر نساعد المحتاج، ونضحي بما عندنا، وليس فقط بما نأخذه من الآخرين لخدمة آخرين، فإننا نكون قد نجحنا بامتياز في رمضان. ويحق لنا أن ندخل معركة العمل في سبيل الله تعالى لخدمة الناس دائما. ويكون رمضان قد امتد معنا إلى ما بعده.
وهذه الأوراش تمثل معسكرات للتدريب بالنسبة للأمة كلها، وليس بالنسبة للمصلين فقط. إنها بمثابة القاعدة الصلبة، والدروع الواقية من أي عدوان. إن العَدُو يكفيه أن يتأمل هذه الأجواء -إن وجدت طبعا بهذه الصفات المذكورة سابقا- كي يقرر عدم الاقتراب من هذه الأمة بسوء. إنها أمة تتدرب على كل الواجهات ولكل الحالات. إنها تعيش التقشف وهي غنية، وتحس بالفقير المحتاج داخل البلد وخارجه، وتتكافل في غير مواطن الحاجة، حتى إذا تطلبت الضرورة ذلك، كان الأمر معتادا سهلا، بردا وسلاما، لا حرا وإيلاما. فرمضان بهذا المعنى إعداد واستعداد لما بعده، وليس له فقط. إنه شهر ممتد في سنة كاملة.
إن رمضان، بالإضافة إلى ما سبق، فرصة لشحن النفوس وتقوية العزائم، باستحضار بطولات وأمجاد الإسلام التي لولا الله ثم لولاه، ما وصل الإسلام إلينا، وما كنا مسلمين أصلا، ثم التفكير في إحياء ذكراها، لتبقى راسخة قابلة للتجديد.
كما أنه فرصة، غير قابلة للتفويت، لاستحضار مآسي المسلمين الحالية، وحمد الله تعالى على الابتلاء، إذ ليس هناك من يحمد على مكروه سواه، ثم المساهمة في تخفيفها، وعلى رأسها فلسطين والشيشان… الأمر الذي يفرض بهذا التحسيس تخريج أفراد واعين بما يحاك لهم، مستعدين للذود عن حماهم بأنفسهم، بما كسبوه من فضائل هذا الشهر الأبرك شهر رمضان، شهر الصبر.
ج- التدرب على البرمجة والتنظيم من خلال شهر رمضان :
إن الصوم يمنح المؤمن فرصة التدرب على البرمجة والتنظيم. ويظهر ذلك من خلال الالتزام والانضباط، للأوقات التي يباح فيها الأكل والشرب، (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)(39). وكذلك الالتزام بأوقات الصلوات، وأوقات الدروس، وحضور الإفطارات… وكل ذلك يعلم الإنسان، ويفرض عليه برمجة وتنظيم وقته لتدارك الأمور الفائتة، واغتنام الفرص الآتية. وهكذا سيضطر إلى إلغاء الأعمال التي لا فائدة منها، لحساب العمل الجاد.
9- رمضان والعمرة :
لا بد لهذا الموضوع من وقفة مستقلة ومستفيضة. وقبل ذلك لا مانع من إثارة الانتباه إلى أن رمضان يتجلى في أبهى صوره مع العمرة. إذ يتمنى المؤمن أن يلقى الله وهو على هذه الحالة، في بلد الطهر التي وطئتها أرجل الأفاضل والأسياد محمد عليه أزكى الصلوات وأزكى التسليم، وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. وسط هذه المواكب الربانية البشرية التي جاءت من كل فج عميق لتشهد لنفسها منافع الدنيا والآخرة.
الخاتمة
أ- سؤال جوهري :
لماذا الامتداد الروحي لرمضان؟
-يتجلى هذا الامتداد واضحا في الزمرة التي تلتزم خلال هذا الشهر. ولا يتوقف التزامها، بل تستمر في توبتها إلى الله تعالى. بفضل الامتداد الروحي لهذا الشهر المبارك.
-وحينما نقول أوراش للعبادة والذكر والصلاة، فلنصنع الجيل الذي لا يرضخ سوى لله، ولا يخشى سوى الله تعالى. جيل يحميبالغالي والنفيس الأرض والعرض في سبيل الله. وذلك من امتداد هذا الشهر الأغر.
-وحينما نقول أوراش للعمل، فإننا نتحدث عن مجتمع متحرك بكامله، كأنما هو خلية نحل، يقوم بذاته لا يحتاج إلى تنظيم دولة ولا إلى مساعدات خارجية علمانية، ترهن قراره العقدي والسياسي مقابل لقمة كيفما كانت. وذلك أيضا، من امتداد هذا الشهر الأبرك.
-وحينما نقول معسكرات للتدريب، فإننا نصنع أمة لها مناعة تؤمن بأنها قادرة على الذود عن وجودها بنفسها، ولا تمد يدها إلى عدو من جوع، ولا توالي إلا الإسلام الذي يصنع لها عزتها والسؤدد. وهذا كذلك بسبب تأثيرات رمضان الروحانية وامتداده.
ب- اكتساب الخلق القويم
إن العالم الذي تقوده العلمانية، اليوم، أفلس على كل المستويات التربوية. وهيمن فيه السياسي والاقتصادي على كل شيء. وحينما وقع الانزلاق عن القيم الإنسانية الحقة، يتم التفكير اليوم، في إعادة تخليق الحياة بكل قطاعاتها وميادينها. ولن يتم تدارك الإفلاس بأدوات الإفلاس، ولا بأشخاص المفلسين أنفسهم. بل لا بد من تغيير هذه الجوانب كي يحدث التغيير الحقيقي المنتظر.
ورمضان فرصة للتدرب على تخليق الحياة السياسة، وإنجاز الأهداف التربوية والسلوكية والإنسانية، والاجتماعية، والتعليمية. لأن امتداده وتأثيره واضح بارز بالأرقام: كثرة التائبين، قلة الحوادث، وفرة خصال البذل والتضحية والصبر. فهو مدرسة للبناء والتكوين.
لذلك ينبغي التهيؤ والاستعداد لرمضان، من أجل بناء الإنسان، من خلال الأخلاق العملية، رأس مال كل تنمية وتقدم. فالمطلوب، إذن، الاستثمار في الإنسان ومن أجله، بدل الاستثمار في الجمادات فقط، على حساب الإنسان.
بقلم :
التعليم في سوس بين الأمس واليوم 3
العلوم التي يدرسها السوسيون
ذ. لطيفة الوارتي
باحثة كلية الآداب وجدة
إن العلوم التي يدرسها السوسيون هي كل العلوم التي تدرس في باقي المدارس العلمية المنتشرة في مختلف مناطق المغرب فتكون بذلك سوس تسير في الركب العلمي بعد استيقاظها من سباتها العميق في القرون الأولى إلى القرن التاسع.
وقد بلغت بعض العلوم أوجها من البحث والدراسة، واستطاع العلماء أن يتمكنوا منها، ومن درسها، وتدريسها حتى اتخذت وجهة مستقلة، وحتى هيأت لها في الشعب قوة يمكن الاستمرار، والاستقرار، ثم الاستقلال في الفهم كما يتبين في مثل عمل عبد الله بن الحضيكي المتوفى مفتتح القرن الثالث عشر، والذي كان في مرتبة بناني المتوفى سنة خمس وتسعين وألف إذ كان يتتبع النقول من مصادرها، ويقابل فيحكم وفق القوانين التي أخذ أسسها من منابعها الرئيسة بكل دقة وحدة بعيدا عن هوى النفس أو ميولها راجعا إلى المصادر الأساسية لذلك رسخت الحركة العلمية بسوس حتى قدرت أن تنجب فطاحل لا تقل مكانتهم عن علماء المشرق فقد تربوا في بيئة علمية متسعة ثابتة الأساس لذلك لا ينبغي أن تجهل مكانتهم ،ولا أن يقلل من جهودهم خصوصا إذا استطعنا أن نحس الجهود الصعبة التي يبذلها السوسي حتى يتذوق اللغة العربية وعلومها ثم يستوعبها ،ويساهم في الإبداع، والإنتاجات العلمية ذات الأهمية العالية، والمكانة المرموقة .
وأما العلوم التي يدرسها السوسيون والتي أنتجوا فيها مؤلفات عديدة تضاهي مؤلفات العلماء في المغرب والمشرق فمن أهمها :
< علم القراءات : إن دراسة علم القراءات وإتقانه، والقيام عليه من العلوم السوسية التي سايرت عصرهم العلمي من قديم، وهو علم شريف مؤسس على قواعد علمية تدرس بمؤلفات معينة، وللسوسيين أيضا مؤلفات في الموضوع.
واشتهر في هذا الفن علماء كثيرون منهم حسين الشوشاوي المتوفى أواخر القرن التاسع، وسعيد الكرامي المتوفى سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة (882هج)، ويحيى بن سعيد الكرامي صاحب شرح” الدرر اللوامع في قراءة نافع”، وأحمد ابن سعيد المتوفى سنة أربع عشرة وألف (1014هج)، وإبراهيم بن سليمان المتوفى سنة تسع وثلاثين وألف( 1039هج)، وموسى الوسكاري المتوفى سنة ثمان ومائة وألف (1108هج)،وغيرهم…
وقد كان هذا الفن معتنى به قبل الأجيال الأخيرة اعتناء كبيرا حيث كانت لهذا العلم أهمية كبيرة، ومكانة خاصة عند طلبة سوس فهم زيادة على حفظ القرآن الذي طبقت شهرته الآفاق اعتنوا بالقراءات السبع، وإتقان الرسم المصحفي حتى أصبحت هناك مدارس معروفة بهذا العلم لذلك كان غالب العلماء إما ملمين به، أو متقنيه ثم تناقص ذلك حتى كان هذا العلم في جهة، وأرباب العلم والفهم في جهة أخرى فتحسب مئات من العلماء قلما تجد منهم من يتقنه كما تحسب عشرات من متقنيه ثم لا تراهم إلا من حفظة القرآن فقط بلا علم، ولا فهم، وهذا هو السبب حتى تناقصت أهميته شيئا فشيئا بعدما كان في الأوج، وبعدما كان له في سوس شأن يرتحل إلى أخذه عن أساتذته مثل ما فعل ابن عبد السلام الفاسي في آخر القرن الثاني عشر فقد نزل في آيت صواب فدرس العلوم والفنون العلمية التي عنده، وأخذ هذا الفن. ذلك ما كان أمس، وأما اليوم فقد هذا اندثر هذا العلم، ولم يبق من أربابه إلا المقلون.
< علم التفسير: اشتهر هذا العلم في سوس من القديم إلى اليوم، وأول من اشتهر بهذا العلم هو أبو يحيى الكرسيفي المتوفى سن خمس وثمانين وثلاثمائة وألف (1385هج) المتخرج مـن الأندلس.
والملاحظ في التفسير في هذه المنطقة أنه يعتني بالوجهة الإعرابية أكثر من المعاني.
وقد ألف داود بن محمد السملالي المتوفى أواسط القرن العاشر مؤلفا في إعراب أوائل الأحزاب، ثم ألف أبو زيد الجشتيمي مجلدين في إعراب القرآن كله.
وكان التفسير يدرس في كل نواحي سوس العلمية ولم ينقطع قط، وكان شيوخ المدارس يدرسونه أنصبة يومية حتى ليتعالى إلى ذلك من لم يكن به إتقان كل العلوم التي يحتاج إليها من يتصدى لذلك.
ولأهمية هذا الفن والاستمرار عليه حافز ظاهر وهو أن السوسي غريب عن اللغة العربية لا يمكن أن يهتدي لمعاني الآيات إلا بالتفسير لكلماته يتلقاه عن أربابه، ولذلك شاع عندهم ثم لم ينقطع كما انقطع في جل دراسات المغرب إلى الجيل الأخير حتى الصوفية يتدارسونه.
فقد كان الشيخ الإلغي يدرسه لمريديه بتتبع، وينهى فقهاءهم عن الاشتغال بالأبحاث اللفظية لئلا يتعدوا المعنى المقصود، وممن اشتهر بهذا الفن في التاريخ السوسي حسين بن داود الرسموكي المتوفى سنة أربع وعشرين وتسعمائة، والحسن بن علي التازروالتي المتوفى سنة ثمانين وألف، وعبد العزيز التيزختي المتوفى أواسط القرن الثاني عشر، وغيرهم كثير..
ومجمل القول إن هذا العلم لم يزل متداولا في تدريسهم، ولم ينقطع حتى في العصر الأخير، وقد انقطع في بعض الحواضر الكبرى، وقل المبرزون فيه والمؤلفون، وإنما شاع تعاطيه فقط بينهم، ولم يلقوه ظهريا.
< الحديث والسيرة:لم يعرف هذان العلمان نهضة علمية كبرى بسوس إلا في القرن التاسع إذ نجد من بين السوسيين حفاظا كبارا اشتهروا بهذا العلم. إذ تشهد مؤلفاتهم، وفهارسهم بهذا الاهتمام.
وقد اعتادوا كثيرا لما ضعف هذا الفن جدا أن يسردوا الكتب ك” صحيح البخاري”، و” صحيح مسلم “، و” الموطأ “، و” الجامع الصغير “، وما إلى ذلك ك” الشفاء” للقاضي عياض وغيرها من المصادر وأمهات كتب الحديث.
وقد اتصلت هذه الحلقات في سوس من القرن التاسع إلى الآن؛ من أيام أبي يحيى الكرسيفي المتصف بالبراعة في الحديث والتفسير، وسعيد الكرامي الذي كان يمزج الحديث بالتفسير في كتبه الفقهية.
واستمر الاعتناء بهذا العلم على مرالعصور، ومن أهم العلماء المشهورين بهذا الفن عبد الله بن المبارك الأقاوي المتوفى سنة خمس عشرة وألف (1015هج)، والحضيكي المتوفى سنة تسع وثمانين ومائة وألف (1189هج)، وابن سالم الروداني المتوفى في القرن الثالث عشر صاحب المؤلفات الكثيرة في الحديث والتي منها الجمع بين الكتب الستة .
وعرف هذا العلم في السنوات الأخيرة تقلصا، وإهمالا من الطلبة والباحثين.
وأما علم السيرة النبوية فلا يزال بعض السوسيين يعتنون به حتى إن منهم من ترجم ” نور اليقين “إلى اللغة الأمازيغية في سِفْرَيْن، وهكذا سارت سوس في قافلة العلم واستمرت في الاهتمام بهذا العلم حتى ضعف ذلك في العهد القريب، فذهبت الآثار بعدما ذهبت الأعيان لا في الحاضرة، ولا في البادية.
< علوم الحديث: لازم هذا الفن فن الحديث فازدهر بازدهاره، وضعف بضعف الاعتناء به.
ومن مؤلفات السوسيين في هذا العلم منظومة” نخبة الفكر ” لمحمد بن سعيد القاضي العباسي المتوفى في القرن الحادي العشر، و ” نظم القافية ” لمحمد بن الحسن الأمانوزي الأديب التي ضمت فنونا عديدة منها هذا الفن، و” شرح الطرفة في الاصطلاح ” للحضيكي وغير ذلك.
وعمل بعض السوسيين على ترجمة كتب الحديث إلى اللغة السوسية كـ ” الأربعيـن النووية ” و” رياض الصالحين ” للنووي، وغيرها من الكتب لفهم معانيها.
< الأصـــــول : اعتنى السوسيون بهذا العلم كباقي العلوم واهتموا به اهتماما كبيرا منذ القرن التاسع إلى الآن، واتخذ العلماء متونا أساسية للدراسة والتعليم من أهمها:” جمع الجوامع “، فتعمق فيه الطلبة والباحثون، وبرز فيه مؤلفون برعوا بروعا عجيبا كحسين الشوشاوي ، وعبد الواحد الوادنوني المتوفى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، ومحمد بن سليمان الجزولي المتوفى سنة ست وثمانمائة (806هج)، وأبي مهدي السجتاني المتوفى سنة إحدى وستين وألف (1061هج)، ومحمد بنإبراهيم الهشتوكي ثم الحوزي وغيرهم.
وقد قل الاهتمام بهذا الفن من أول القرن الماضي قال المختار السوسي عن إهمال السوسيين لهذا العلم :”…. فهو إذن من الفنون التي شمسها على أطراف النخيل في مجالس الدراسة منذ أكثر من قرن، ثم لم يتوقف من تعاطيه إلا إشارة كباقي الوشم في ظاهر اليد”
< الفـقـــه : بدأت العناية بهذا العلم في مفتتح القرن الخامس وأول من عرف به الشيخ محمد وجاك الذي تميز بأنه فقيه حاذق بليغ، فتتابع بعده العلماء كأبي يحيى الكرسيفي في القرن السابع. وبلغ أوج تطوره في القرن التاسع والعاشر. فظهر علماء كثيرون اهتموا بهذا العلم اهتماما كبيرا، وخلدوا مؤلفات كثيرة شهدت بمكانتهم العالية، وثقافتهم المعمقة كسعيد الكرامي شارح” الرسالة” لأبي زيد القيرواني، و”المختصر “لابن الحاجب، وعبد الواحد الرجراجي المتوفى سنة سبع وعشرين وثمانمائة (827هج)شارح ” المدونة “لابن مالك، وداود التملي صاحب أمهات الوثائق، وإبراهيم التامانارتي المتوفى سنة إحدى وسبعين وتسعمائة (971هج)الذي جعل جزولة تزخر علما، وأحمد التينزرتي المتوفى سنة ثلاثين وألف (1030هج) وغيرهم من العلماء.
ولم يزل هذا الفن في علوه، وارتفاعه طوال القرون الماضية إلا أنه بدأ يتقلص منه ذلك الاستبحار الذي تميز به بعض العلماء، فتأخر بذلك سير هذا الفن عن الفنون العربية التي لم تكن مرتبتها مائلة إلى الإسفاف بعد، وقد اهتم بهذا العلم أكثر الأدوزيين، والجشتيميين، والأستاذ البونعماني ابن مسعود إذ لا يزال هؤلاء مكبين على هذا العلم ويستحضرون كل ما في ” المعيار” وفي كتب النوازل الأخرى في سوس فتاوي السوسيين مجموعة وغيرها. وأما غيرهم فيقتصر على ما هو أدون من ذلك بكثير حتى إن فتاويهم لا تعدو نصوصها التي ينقلونها ما في التسولي ، ومتن المختصر ، وبعض شروحه وغيرها. ولا يوجد ذلك التوسع الذي كان عند أولائك الذين يدعمون فتاويهم بنصوص مستقاة من ” المعيار ” والزرقاني اللمتوفى سنة خمس وستين وتسعمائة ( 965هج) ، وحواشيه، ثم يردفون ذلك بأصول مذهبية يستشهدون فيها بكلام القرافي المتوفى سنة أربع وثمانين وستمائة (684هج) ، وغيره، وقد يتوسعون إلى القواعد الأصولية العامة حتى وجدت لبعضهم فتوى واحدة على هذا المنهج الموسع خرج مؤلفا خاصا، وما أكثر أمثال هذه المؤلفات عند الأدوزيين، والجشتيميين، والبونعمانيين.
وقد عرف هذا الفن بعد الاهتمام الكبير الذي تميز به إهمالا في العصور الأخيرة، وانطواء الهمم، وفتور العزائم لما عرفته المنطقة من الانحلال تحت سيطرة الاستعمار.
< العروض: للعلم الأدبي استدعاء لإتقان هذا العلم الذي تضعف طرر قوافيه على جيله، ولذلك كان يزدهر بازدهار الأدب، ويضعف بضعفه وهذا هو الواقع في هذا الفن بسوس فقد كان في عهد النهضة الأدبية السوسية الأولى مدمجا في الدراسة العامة فتتناوله أقلام التأليف. فألف فيه أبو فارس الرسموكي ثم أحمد بن سليمان الرسموكي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف (1133هج) وعلي بن أحمد الرسموكي ، ولغيرهم منظومة في هذا الفن قصيرة. ثم لما انتعش الأدب مرة ثانية في العهد الأخير رجع إليه اهتمام العلماء، فدرس بعضهم الخزرجية ودرس بعضهم غيرها.
وبدأت نهضته الأخيرة في أوائل القرن الماضي حيث اشتهر بهذا العلم الأستاذ اليزيد الروداني المتوفى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف (1335هج). كما اعتنت به بعض المدارس كالمدرسة الجشتيمية ، والإلغية ، والأدوزية ، والبونعمانية ، وغيرها ثم لما ضعف مجال التدريس أدمج هذا الفن في باقي العلوم.
< النحو والتصريف واللغة :
إن كل العلوم التي يهتم بها السوسيون ويعتنون بها يعتبرونها تابعة لعلم اللغة العربية لمكانتهم من العجمة ولا مفتاح لهذه العلوم إلا إذا اعتنوا بها ليستطيعوا أن يفهموا ما يريدون لكونهم أجانب عن لغة الضاد، ولكنهم لا يكادون يتذوقون حلاوة أساليب اللغة حتى يستمروا في مزاولتها شغفا بها.
وحين تكون اللغة والنحو والتصريف أول ما يسبق إلى أذواقهم فلن ينسوها وإن شاركوا في غيرها فيعضون عليها بالنواجد، ويكبون على تحصيلها والزيادة فيها. ثم بمقدار إكبارهم عليها تتزحزح العجمة عن ألسنتهم، وتتمكن روح الأساليب العربية في أذواقهم. وقد اتبع السوسيون طريقة منظمة في تعليم اللغة والنحو والتصريف فمن سلكها منهم يضمن له الفوز، ولإتقانهم هذه الفنون الثلاثة إتقانا شديدا وحرصهم عليها والتعمق في قضاياها فقد استطاعوا أن يدرسوا ” التسهيل ” لابن مالك وشروحه كـ ” شرح ابن عقيل “و” المرادي ” و” الألفية ” وشروحها ك” شرح الاشمونى “، و”الصبان”، و”لامية الأفعال ” وشروحها ك ” شرح بحرق الحضرمي”، و”أوضح المسالك” لابن هشام، و” البهجة” للسيوطي و” الآجرومية ” بشرح الأزهري والكدسي المحجوبي و”الجمل” للمجرادي، بشرح الرسموكي… وغيرها من المؤلفات والمصا در.
فانكب السيوسيون يحفظون هذه المتون حفظا وتقديرا واستظهارا للشواهد، ولا يسامح في ترك حفظ شيء منها حيث تتلى كلها دائما جماعة أو فرادى.
وما قيل في النحو يقال في التصريف حيث اعتنى السوسيون باللغة، ودراسة متونها فانكبوا على مراجعة” القاموس”، و”الصحاح” و”المختار”.
لقد اهتم العلماء السوسيون بهذه العلوم ونبغوا فيها، وتميزوا حتى اشتهر منهم علماء فطاحل كإبراهيم بن محمد بن عبد الله اليعقوبي الذي قال فيه معاصروه :” آخر من أتقن علم التصريف “، وداود بن محمد السملالي الذي كتب في إعراب أوائل الأحزاب، ومحمد بن إبراهيم البعقيلي الذي وصف بأنه آخر من يحفظ ” كتاب ” سيبويه، ويحيى الجلموسي الملقب بسيبويه عصره وغيرهم.
وأما التأليف في اللغة فقد ألف أبو فارس الرسموكي حاشية على ” الصحاح ” للجوهري، وألف التازولتي التملي شرحا على ” المقصورة “المكودية وألف أيضا الاسغركيسي الهشتوكي المتوفى سنة خمس وستين وألف (1065هج) شرحا على المقصورة الدريدية… وغيرها من المؤلفات والمصادر التي تثبت مكانة العلماء السوسيين، وتعمقهم في هذه العلوم ثم إنتاجاتهم التي تضاهي إنتاجات علماء المشرق.
وعلى كل حال فهذه المؤلفات وغيرها تدل على تطلع هؤلاء العلماء والباحثين لهذا العلم إذ دراسة هذه الكتب، أو شرحها، أو التعمق فيها لايتصدى لها إلا أديب، أو لغوي ماهر كبير.
واهتم السوسيون بعلوم أخرى لكنها أٌقل أهمية من هذه كالمنطق، والفرائض، والحساب، والهيئة، والطب، والأسانيد، وعلم الجداول وغيرها. ومنحها العلماء والطلبة والباحثون اهتماما كبيرا، فخصصوا كتبا بدراستها، وفهم قضاياها، والتعمق في معانيها، فبرز فيها علماء فطاحل ضاهوا بذلك علماء المشرق، وأصبحت لمؤلفاتهم مكانة عظيمة.
———
1 ـ سورة البقرة: 184 .
2 ـ أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، .
3 ـ رواه البخاري، كتاب الإيمان، الرقم: 37. ك
4 ـ رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، رقم الحديث: 344. ومسند أحمد، مسند باقي المكثرين، الرقم: 8830..
5 ـ رواه البيهقي وابن حبان.
6 ـ رواه البخاري، كتاب الجمعة، الرقم:1062.
7 ـ البقرة: 183 .
8 ـ رواه البخاري، كتاب الصوم، الرقم:1761. .
9 ـ رواه البخاري، كتاب الصوم، الرقم:1771
10 ـ رواه البخاري، كتاب الصوم، الرقم: 5597.
11 ـ رواه البخاري، كتاب الصوم، الرقم:1771.
12 ـ كتاب : “رسالة الصيام والزكاة”. ص:21.
13 ـ سورة الكهف:28.
14 ـ رواه الترمذي.
15 ـ رواه البخاري.
16 ـ رواه مسلم.
17 ـ سورة الصف: 4.
18 ـ سورة السجدة: 16.
19 ـ أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، الرقم2541.
20 ـ رواه البخاري في الصوم الرقم:1772 .
21 ـ رواه البخاري ومسلم.
22 ـرواه مسلم، كتاب الفضائل، الرقم:4268.
23 ـ الترمذي، كتاب الجمعة، الرقم:.558.
24 ـ الترمذي، كتاب الصوم، ،الرقم:735.
25 ـ سورة الإسراء:29.
26 ـ سورة الفرقان:67.
27 ـ رواه مسلم، كتاب البر والصلة، الرقم:4685 .
28 ـ لا يوجد في الكتب التسعة.
29 ـ الترمذي، كتاب الزهد، الرقم:2302. .
30 ـ سورة المائدة: 32.
31 ـ أحمد، في مسند باقي المكثرين، الرقم:6337.
32 ـ الترمذي، فضائل القرآن، الرقم:2835.
33 ـ مسلم، كتاب الزكاة، الرقم:1691.
34 ـ سورة الرعد: 28.
35 ـ أحمد، في مسند ن، الرقم:8296 + 8886 .
36 ـ سورة البقرة: 152.
37 ـ البخاري، كتاب الصوم، الرقم:1771.
38 ـ الترمذي، كتاب الزهد، الرقم:2255. .
39 ـ سورة البقرة: 187.
(ü) طالبة باحثة -كلية الآداب- وجدة.