ينزعج كثير من الناس حين ينظرون إلى الواقع الراهن، سواء بالنسبة للحرب الضارية التي تشن على الحركات الإسلامية في كل الأرض، أو بالنسبة لما وقع – وما يزال يقع – من الاضطراب في مسيرة الحركة من جهة أخرى، فيحسبون أن العمل الإسلامي ليس له مستقبل، وأن الواقع السيء الذي يعيشه المسلمون اليوم سيستمر على ما فيه من السوء، أو أنه صائر إلى مزيد من السوء.
أما نحن فنعتقد اعتقادا راسخا أن المستقبل للإسلام.
ولسنا نبني رؤيتنا على أوهام، ولا على أحلام، ولا نحن كذلك نغمض أعيننا عن العراقيل القائمة في وجه العمل الإسلامي من داخله أو من خارجه، ولا نقلل من شأنها، ولا من تأثيرها على العمل الإسلامي.
ولكنا نؤمن إيمانا جازما أن البشر ليسوا هم الذين يقدرون الأقدار، سواء منهم العدو أو الصديق، إنما الله هو الذي يقدر ، وهو صاحب الأمر من قبل ومن بعد، ومشيئته هي النافذة، وقدره هو الغالب: {والله غالب على أ مره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف: 21).
والله هو الذي قدر لهذا الدين أن يبقى في الأرض وأن يظهر على الدين كله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (الصف:9) >ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار<(1).
وقدر الله يجري من خلال سننه التي لا تتبدل ولا تتحول، ومن خلال وعده ووعيده، ومن خلال مشيئته الطليقة التي تقول للشيء كن فيكون، وتخلق الأسباب التي يتحقق بها كل شيء حين يقدر له أن يكون.
وإذا نظرنا إلى الموقف على ضوء السنن الربانية، وعلى ضوء وعد الله ووعيده فسنجد على الساحة عنصرين متصارعين: الحركات الإسلامية من جهة، و أعداء الإسلام من صهيونيين وصليبيين وأعوان لهم من جهة أخرى. فما الذي يتوقع لكل من العنصرين فيالمستقبل القريب أو المستقبل البعيد؟.
فأما الحركات الإسلامية فقد أسهمت في العمل الإسلامي بجهد واضح لا شك فيه. وانتشار الروح الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي كله، والرغبة الحارة في العودة إلى الإسلام في محيط الشباب خاصة، راجعان بعد فضل الله ومشيئته إلى الجهد الذي بذلته الحركة في أكثر من نصف قرن من الزمان، منذ سقوط الخلافة إلى الوقت الراهن.
ولكن السلبيات القائمة في العمل الإسلامي معوق واضح يبدد كثيرا من طاقة العمل ويبعثره، ولا يجعل الجهد يؤتي ثماره المرجوة، فهل يستمر الوضع على هذا الحال؟
{قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} ( النمل: 25).
ولكن الأمر لا يخرج عن أحد احتمالين: إما أن يستمر الوضع على حاله، وإما أن يتغير.
ونحن نرجو – من خلال التجارب المرة التي يمر بها العمل الإسلامي- أن يتغير الوضع إلى الصورة الصحيحة، وأن تتلافى الأخطاء التي وقعت، وتبدأ مسيرة سليمة على منهج سليم.
ولكنا نفترض الفرض الأسوأ، وهو إصرار العاملين في حقل الدعوة على مواقفهم، على اعتبار أن منهج كل منهم هو المنهج الأصوب، وأن ما يدعو إليه غيره بعيد عن الصواب، أو على أساس أنه لا يمكن التراجع بعدما مضت كل حركة في طريقها خطوات ليست بالقليلة، أو على أي أساس آخر مما يمكن أن تبرر به كل حركة إصرارها على موقفها. فماذا يحدث حينئذ؟ هل يعجزون الله؟ أم ينفذ الله قدره رضي الناس أم أبوا؟
إن أداة التغيير موجودة على الدوام في سنة الله عز وجل: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (محمد: 38).
فإذا كان في قدر الله أن يبقى هذا الدين، وأن يظهره على الدين كله، كما أخبر سبحانه في كتابه المنزل، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلن تقف سلبيات العمل الإسلامي الراهن أمام قدر الله ومشيئته، وسوف ينفذ الله وعده، ويخلق لنفاذه ما يشاء من الأسباب: {إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} (الطلاق: 3). {يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} ( المائدة: 54).
أما الأعداء فلننظر ماذا يخصهم من سنن الله، ومن وعده ووعيده.
أما الغرب الصليبي، فأشد ما ينطبق عليه من السنن الربانية هو قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} (الأنعام: 44) . . ذلك أنهم أرادوا الحياة الدنيا وعملوا من أجلها واجتهدوا فوفى ا لله لهم أعمالهم فيها بحسب سنة من سننه: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} (هود: 10).. وذلك أيضا حسب مشيئة إلهية مسبقة، أنه يعطي الدنيا للمؤمن والكافر على السواء، كل بحسب اجتهاده، ولا يمنعها عن الكفار، بل قد يزيدهم منها ليزدادوا كفرا: {كُلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} (الإسراء: 20). {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي ل هم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} (آل عمران: 178).
فإذا كان الغرب اليوم مُمَكّنا في الأرض، ومستعليا فيها حسب هذه السنن الربانية، فإن هذه السنن ذاتها تقول إن ذلك الإملاء لا يدوم إلى الأبد، إنما هو موقوت بقدر يأتي من عند الله في موعده المقدر له: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذي ظلموا والحمد لله رب العالمين} (الأنعام: 44-45).
وعلى الرغم من فتح أبواب كل شيء عليهم فإنهم يعيشون في الضنك الذي توعد الله به المعرضين عن ذكره.
{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه: 124).
والضنك الذي يعيشه الغرب- المفتوح ةعليه أبواب كل شيء من أسباب التمكين المادي – يتمثل الآن في القلق والجنون والانتحار، والأمراض النفسية والعصبية، والخمر والمخدرات والجريمة، والإيدز، وما قد يجد من الأمراض التي لم تكن موجودة من قبل، أو لم تكن تأخذ صورة الوباء كما هي اليوم، وفي الأزمات التي تحيط بالعالم كله سواء كانت أزمات اقتصادية أو سياسية أو حربية أو فكرية أو خلاف ذلك.. وذلك لأن باب البركة وباب الطمأنينة ليسا من الأبواب التي تفتح للكفار حين ينسون ما ذكروا به، لأنها خاصة بالمؤمنين، يتفضل بها الله عليهم في الحياة الدنيا، فضلا عن نعيم الآخرة: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لتفحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف: 97). {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب} (الرعد: 28-29).
وخلاصةالقول: إن الغرب اليوم يملك كل وسائل القوة المادية، ولكنه لا يملك القدرة على الاستمرار، لأنه خاو من العوامل التي يكتب الله بها لأصحابها الاستمرار، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر، وعمل الصالحات..
ولا شك أن لديهم أعمالا صالحة، كالخدمات الطبية، وتيسير سبل الحياة بما يوفر جزءا من المشقة التي يكابدها الإنسان في الأرض، ولم تخل جاهلية من جاهليات التاريخ من أعمال صالحة يقوم بها بعض أفرادها، ولكن ذلك لا يمنع عنها صفة الجاهلية من جهة، لأن هذه لا تزول عن الإنسان إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر واتبع ما أنزل الله. ومن جهة أخرى فإن تلك النقط البيضاء المتناثرة في الثوب الأسود الممتلئ بالشر، لا تغني عن أصحابها شيئا، ولا تمنع عنهم الدمار الذي تقرره السنن الربانية لهم مهما طال الإملاء لهم.
إن الإلحاد الذي تنشره الحضارة الغربية، والانحلال الخلقي الذي تنشره وسائل إعلامها، والخواء الروحي، والانغماس في المتاع الحسي إلى آخر المدى، وتزيين الحياة الدنيا، ونسيان الآخرة نسيانا كاملا، والغفلة عن أن الله يحصي على البشر أعمالهم ويحاسبهم عليها، كل هذا لا يصنع حضارة حقيقية يكتب الله لها الاستمرار في الأرض، ولو أملى لأصحابها فترة من الزمان لحكمة يريدها. ولسنا نحن الذين نقول ذلك إرضاء لعواطفنا، أو تصديقا لأحلامنا ! فمن قبل سنوات قال برتراندرسل: “لقد انتهت حضارة الرجل الأبيض، لأنه لم يعد لديه ما يعطيه”.
ومن قبل قال ألكسيس كاريل: “إن هذه الحضارة آيلة للانهيار”.
وبالأمس شهدنا انهيار الشيوعية، وفي الوقت الحاضر تكتب الصحف الغربية – والأمريكية من بينها- تقول: هل بدأ انهيار أمريكا؟
ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك سيتم غدا صباحا ! فما زال في هذه الحضارة الجاهلية من العوامل ما يمكن أن يمد لها فترة من الزمن بحسب السنن الربانية: عبقرية التنظيم، والجلد على العمل، والحرص على الإتقان، والقدرة على التخطيط. فضلا عن كون البديل الحضاري الذي يؤدي ظهوره إلى سرعة انهيار تلك الحضارة لم يظهر بعد ! ولكن هذا كله لا يغير المصير، لأنه سنة من سنن الله !
ذ مممد قطب
—–
1 – رواه أحمد.