قبل التطرق للأمارات الكبرى الدّالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم الذي لا نبي بعده، يُسْتحسن التمهيد لذلك بعدة نقاط، منها :
1) النصوص الدالة على ختم النبوة :
قال الله عز وجل : {مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالُكُمْ ولَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وخَاتِمَ النَّبِيئِينَ وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب : 40).
فالآية وردتْ في التعقيب على التشريع الذي أبطل العادة الجاهلية التي كانت متأصلة في نفوس الجاهليين، وهي عادة (التَّبَنِي) أيْ اتخاذ وَلَدٍ من غير الصُّلْب ابْناً مثل الابْن من الصُّلب، يرث الوَلَدُ المُدَّعَى أباه، ويَرث الأبُ المدّعِي ابنه إذا مات، ولا يتزوج الأب المدّعِي زوجة ابنه، وكذلك العكس، ويُدْعَى (ابْنَ فُلاَنٍ) كما كان زيْد بن حارثة يُدْعَى (ابنَ مُحمَّد).
فأبطل الله تعالى هذه العادة وقال : {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِند اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ في الدِّين ومَوَالِيكُمْ} (الأحزاب : 5)، وقال بالنسبة لمحمد خاصة {مَا كَانَ مُحَمّد أبَا أحَدٍ مِن رجَالِكُم..}(الأحزاب : 40) فهذا نص قاطعٌ في خَتْم النبوة باللفظ والمعنى، والمنطوق والمفهوم، أيْ أنه آخرهم الذي لا نبيَّ بعده(1).
وجاءت السنة تؤيد هذا المعنى وتوضحه بجلاء، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : >إنَّ مََثَلِي ومَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتاً فَأَحْسَنَهُ وأجْمَلَهُ، إلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زَاوِيَةٍ، فَجَعلَ النّاسُ يطوفون به ويَعْجَبُون له، ويقُولون هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟! فأنَا اللَّبِنَة وأنا خَاتِمُ النَّبِيئِينَ<(رواه البخاري). وقال صلىالله عليه وسلم : >كانَتْ بَنُو اسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأنبياء، كُلما هَلَك نبيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي، وسَيَكُونُ خُلَفَاءُ<(رواه البخاري باب ما ذُكر عن بني اسرائيل)، وقال صلى الله عليه وسلم : >فُضِّلْتُ على الأنبياء بِسِتٍّ : أُعطيتُ جوامع الكلم، ونُصِرْت بالرُّعْب، وأحِلَّت لي الغنائم، وجُعِلَتْ لي الأرضُ مَسْجداً وطهوراً، وأرسلتُ إلى الخلق كَافَّة، وخُتم بي النبيئون<(رواه مسلم والترمذي، وابن ماجة)، وقال صلى الله عليه وسلم : >أنَا مُحَمَّدٌ، وأنا أحْمَدُ، وأنا المَاحِي الذي يُمْحَى بِي الكُفْرُ، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النّاسُ على عَقِبِهِ، وأنَا العَاقِبُ الذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ<(رواه الشيخان في صحيحيهما).
وروى الإمام أحمد في مسنده في مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص : >أنَا مُحَمَّد النبيُّ الأُمِّيُّ (ثَلاَثاً)، ولاَنَبِيَّ بَعْدِي<(2).
2) الأمارات سِرُّ التيقُّن من الرسول الحقيقي :
إن الملوك والرؤساء والحكام وكل من أراد من الناس أن يُرسِل رسالة خاصة ذات شأن عظيم، لابد أن يعطي لرسوله الذي أرسله بذلك الغرض علامات خاصة تجعل المُرْسَلَ إلَيْه لا يشك في أنها من عند فلان، ولذلك كانت الطوابع والتوقيعات الخاصة، وكانت كلمات السر في الحروب وتبادُل التعارُف وإبلاغ الرسائل الخاصة عن طريق العلامات والرسائل المشفَّرة.
ومن سنّة الله تعالى في هداية خلقه، واستمرار نعمته ورحمته ولطفه بعباده، أن الله تعالى منذ خلقهم لم يقطَعْ عنهم نعمة الإمْدَاد المادي والمعنوي، فرزقهم وسَخَّر لهم الكون، ورزقهم العقل الذي به يتعلمون كيف يسخرون الكون لصالحهم، وفي نفس الوقت استمر تعليم الله تعالى لهم كيف يسيرون في الأرض سَيْر البصير الرشيد عن طريق الأنبياء والرسل الذين توالت بعثاتهم منذ بدء التّجمُّع البشري إلى أن خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم{إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيراً ونَذِيراً وإنْ مِنْ أمَّةٍ إلاَّ خَلاَ فِيها نَذِيرٌ }(فاطر : 24)، {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أجَلَهَا ومَا يَسْتَاخِرُونَ ثُمَّ أرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وجَعَلْنَاهُمْ أحَادِيث فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاَ يُومِنُونَ}(المومنون : 44).
فكان من لوازم هذا التتابُع الصادق النِّسْبةِ إلى الله تعالى أنّ الله تعالى يؤيد رُسُلَهُ بالآيات والمعجزات دلالةً على صِدْق الانتماء والتبليغ عن الله تعالى، وكان من مقتضاه أيضا أن كُلَّ رسول يُصدِّقُ ما سبقه، ويُبَشِّر بمن بعده لتستمرَّ الحَلقات الإيمانية على الأرض، ولكي يَبْقَى الناس دائماً -متطلعين عند الضعف- إلى الإنقاذ، منتظرين الرسولَ المجدِّدَ لدعوى من سبقه بأسلوب وآيات تناسب الظرف الذي يعيش فيه المنحرفون عن سَنَن الهَدْي الربَّاني السابق.
إلا أن النبي الذي قَدَّر الله تعالى -في أزله- أن تُخْتَم به النبوةُ والرسالة لابُدَّ أن يَكون متميزاً عن باقي الأنبياء، وأن تكون رسالته متميزة عن باقي الرسالات، لا تناقضُها ولكن تُصَدِّق الثابت من المبادئ والعقائد وتؤيده، وتنْسَخ العسير من التشريعات و تزيله، ولا تختمها ختمَ انقطاع للهداية والإرشاد، ولكن تختمها خَتْم بعثةٍ وإرسالٍ(3). ولذلك توالتْ التبشيرات بالرسالة الخاتمة والنبي الخاتم -لأهميتها وميزتها- على لسان كل الرسل السابقين، كما توالتْ التحديداتُ والتبْييناتُ للأمارات والعلامات والأوصاف والنعوت الحسية والمعنوية المبيِّنة بجلاء ما يتفرَّدُ به النبي الرسول الخاتِمُ، وما تتميَّزُ به رسالته الخاتمة عن باقي الرسالات، حَتَّى تُقامَ الحجة بها على كُلِّ جاحد، وتقطع السُّبل أمام المرتابين، ويُفتحَ الطريق الواضح أمام الربانيين العابدين الحامدين الشاكرين.
يكتبها :
ذ. المفضل فلواتي
——–
1- قد قرئ كذلك (خاتَم) بفتح التاء بمعنى الطابَع بفتح الباء، فليس المراد به الطابع الذي يطبع به على الرسائل في دائرة البريد عند توزيعها، وإنما المراد به الطابع الذي يطبع به على الغلاف لِيَلاَّ يدخل فيه شيء ولا يخرُج منه (ختم النبوة للمودودي 10)، ويقول د. وهبة الزحيلي : الخاتم بالكسر فاعل الختم، وبفتح التاء بمعنى الطابع كآلة الختم، أي وآخرهم الذي ختمهم، التفسير المنير 25/22، أما الشوكاني فقال : إنه صار كالخاتَم لهم الذي يتختَّمون به ويتزيَّنون بكونه منهم، فتح القدير 285/4.
2- انظر تفسير ابن كثير 596/3.
3- أيْ : إن الهداية مستمرة على يد أتْباع الرسل، ولكنّ بعثة الرسل انتهتْ.