من الأمراض التي أصابت الأمة : الفوضى والارتجال والنفس القصير.. وكلها -فيما أزعم – من أمراض البيئة التي جاء الإسلام فقومها وسددها، بتعويد الناس على النظام، والتفكر والتدبر قبل العمل، وفي أثناء العمل، والنفس الطويل الذي لا يفتر بعد الخطوات الأولى المتحمسة.
لقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على هذه الأمور، ولم يكن يعتبرها أمورا ثانوية أو هامشية تجيء أو لا تجيء. فقد كان يعلم، وهو النبي الملهم، أنه لا يقوم بناء حقيقي، ولا يستمر راسخا إذا كانت هذه الآفات تعتوره.
جاء على لسان الصحابة رضوان الله عليهم: >كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفنا للصلاة كما يصفنا للقتال<… وذلك إلى جانب الأمر بالخشوع والسكينة. والخشوع في الصلاة هو عنصرها الروحي الذي يوثق الصلة بين العبد وربه، والدعوة إليه أمر بدهي، ولكن النبي الملهم صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه لابد من عنصر آخر في بناء الأمة، إلى جانب الصلة الوثيقة بالله، وهو النظام، والنظام عادة نفسية حسية لابد أن تربى بالتعويد، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يمر بيده الشريفة على المصلين يسوي الصف بيده، ولا يبدأ الصلاة حتى يستقيم الصف تماما، إشعارا منه صلى الله عليه وسلم بأهمية النظام.
ومن الواضح أن النظام جزء لا يتجزأ من هذا الدين، فالصلاة نظام وانضباط، سواء في تحديد الوقت أو انتظام الصف، أو في متابعة المصلين للإمام في الركوع والسجود والقيام، والصيام له نظام ومواقيت، والزكاة لها نظام ومواقيت، والحج له نظام ومواقيت فضلا عن انتظام الصفوف في القتال.
وأما العفوية والارتجال فقد تكون من آفات البيئة، ولكن الإسلام قاومها وقومها، بلفت النظر إلى السنن الربانية التي لا تتبدل ولا تتحول، و بالدعوة إلى التدبر والتفكر والتثبت في الأمور كلها، ولفت النظر إلى مآلات الأعمال، وعدم الاكتفاء بالنظر في كون العمل مباحا في ذاته أو غير مباح، فقد يكون الأمر من المباح بل من المستحب، ولكنه يمنع لما يترتب عليه من نتائج، كما أمر تعالى بعدم سب الأصنام حين ترتب عليه تجرؤ ا لمشركين على سب الله سبحانه وتعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} الأنعام: 108).
وكما امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل عبد الله بن أبي، المنافق البين النفاق، لكي لا يتحدث الناس بأن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، وهم يومئذ إما قد دخلوا الإسلام ولم يرسخ إيمانهم بعد، وإما واقفون يترقبون ولما يسلموا، وانتشار هذه المقالة بينهم يومئذ يعطل الدعوة ويثبط المترددين !
وأما النفس القصير، وفتور الهمة بعد الحماس المشتعل، فقد يكون كذلك من آفات البيئة، ولكن الإسلام عالجه علاجا رائعا من كل أطرافه، فمن جهة وجه أنظارهم وأفئدتهم إلى هدف يتجاوز الحياة الدنيا كلها، والأرض كلها، والزمن كله، ويصل إلى بعد لا يدانيه بعد، وهو اليوم الآخر، وما فيه من بعث ونشور، وحساب وجزاء، وجنة ونار… فوصل العاجلة بالآجلة، وجعل العمل في العاجلة هو وسيلة الوصول الآمن إلى الآجلة، وليس وراء ذلك بعد تعمل من أجله النفوس، ولا مدى تتطلع إليه، وتثابر على القيام بمتطلباته، لأن أي فتور في الطريق قد يقطع الطريق !
ومن جهة أخرى أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل في المثابرة والدأب ومواصلة العمل بجهاده الذي لا يفتر، واستمراره في الدعوة في أحلك الظروف وأصعبها، وعدم الركون إلى اليأس أو التقاعس أو الهمود، في الوقت الذي كانت الظروف كلها تدعو إلى اليأس والتقاعس والهمود.
ومن جهة ثالثة وجه الصحابة رضوان الله عليهم، والأمة من ورائهم، إلى الدأب والمثابرة، ولو بدت الثمرة بعيدة المنال، فقاللهم صلى الله عليه وسلم: >إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها<. وحثهم على مداومة العمل ولو بالقليل دون انقطاع، و كان دائم الاستعاذة أمامهم من العجز والكسل..
وكان من نتائج هذه التوجيهات كلها في الكتاب والسنة في حياة الأمة المسلمة استمرار الدعوة إلى الله قرونا بعد قورن، واستمرار الجهاد في سبيل الله قرونا بعد قرون، وحضارة شامخة وحركة علمية ضخمة استمرت في واقع الأرض عدة قرون.
وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى انحسار الروح الدافعة في حياة المسلمين، وعودتهم إلى طبيعة الفوضى التي تكره النظام، والعفوية التي تكره التخطيط، وقصر النفس الذي يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة، فقد أدت هذه الأمراض إلى مفاسد عظيمة في كيان الأمة، ليس أقلها ما يطلق عليه في لغة العصر >التخلف الحضاري<، وليس أقلها موت كثير من المشروعات النافعة قبل أن تؤتي ثمارها، و ليس أقلها تبلد الحس على كثير من الأمراض العقدية والفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية، وعدم التحرك الجاد لتغييرها، وكلها من المنكر الذي أمر الله ورسوله بتغييره، و أنذر الأمة، إذا لم تقم بتغييره، أن يعمها الله بعقاب…
وحين تجمعت هذه الأمراض كلها في كيان الأمة حدث أمران عظيمان مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: غربة الإسلام، وتداعي الأمم على الأمة الإسلامية.
عاد الإسلام غريبا كما بدأ، فكل مفاهيمه لم تعد هي التي أنزلت من عند الله.
فأما لا إله إلا الله فقد صارت كلمة تنطق باللسان، والقلب غافل عن دلالتها والسلوك مناقض لمقتضياتها، وأما العبادة فقد انحصر ت في الشعائر التعبدية، و هذه ذاتها صارت إلى أداء تقليدي خاو من الروح، ثم صارت إلى تقاعس وتكاسل حتى عن أدائها، والاكتفاء بالنية الطيبة تجاهها.
وأما عقيدة القضاء والقدر فقد انقلبت تواكلا سلبيا مريضا بدل التوكل الصحيح مع العزيمة والأخذ بالأسباب، وانقلبت تبريرا لكل ما يقع من خطأ وقصور وخطايا بأنها كلها من قضاء الله و قدره !
وأما الدنيا والآخرة فقد انفصلتا في حس الناس فأصبح العمل من أجل الدنيا إهمالا للآخرة، والعمل من أجل الآخرة إهمالا للحياة ا لدنيا ولعمارة الأرض.
وأما مفهوم الجهاد فقد ظل ينحسر وينحسر حتى صار للدفاع فحسب، ثم أصبح تقاعسا حتى عن الدفاع، وهروبا من مقتضياته.
وأما مفهوم التربية فقد صار تعويدا على طقوس وتقاليد، لا ينشئ روحا مبدعة ولا همة عالية.
وأما مفهوم الصبر والتقوى فقد أصبح سلبية خانعة ترضى بالذل، ولا تتحرك لإزالته.
وعندما حدث هذا الخلل الهائل في مفاهيم الإسلام حدث “التخلف” في جميع الميادين: التخلف العسكري، والتخلف السياسي، والتخلف العلمي، والتخلف الفكري، والتخلف الاقتصادي، والتخلف الاجتماعي، والتخلف الأخلاقي… وكل أنواع التخلف التي تخطر على البال، لأن العمل المتدفق فيكل هذه الميادين كان يستمد في فترة التمكين من ذلك المنبع الضخم: من العقيدة الصحيحة في الله واليوم الآخر.
فلما جف النبع في قلوب الناس -إلا من رحم ربك – لم يعد هناك ما يغذي العمل في النفوس: > ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب<.
عندئذ تداعت الأمم على الأمة التي أصبحت كغثاء السيل.
ذ محمد قطب