منذ أن تعلمت أبجديات الحرف في حضن والدي , ومنذ أن غرس عشق الكلمة في أعماقي حين كنت أقرأ عليه فصولا من الكتب التي تنوعت اتجاهاتها , علمت أن للمرأة قضية..وكنت أسأله: “هل هناك قضية للمرأة حقا يا أبي؟” .فيرد بابتسامته المشرقة التي لا تغادر شفتيه حتى في أحلك الأوقات :”هكذا يقولون ,لكن الإسلام حسم فيهـا منذ قرون , المشكلة فينا ياابنتي , في الإنسان,في احترامنا لأنفسنا, في تجذرنا في أصالتنا الحقيقية وليست المزيفة ..” ويستغرقني الاستماع إليه وهو يحدثني عن مكانة المرأة في حضارتنا , والقيمة التي اكتسبتها .وكنت بالفعل أعيش في ظل ذاك الاحترام في علاقتي معه , وحين تزوجت لم أجد فرقا كبيرا في نوعية الاحترام , أما حين قررت استكمال دراستي بعد أن أنجبت أربعة أطفال وسط معارضة عائلية مشددة وخاصة من طرف النساء ,لم أجد من يقف إلى جانبي ويشجعني على متابعة التعليم سوى والدي وزوجي . وكانت الكلمات عن المرأة وحقوقها وواجباتها تتسطّر دائما في قضاء حياتي كلما لمست ما تعانيه المرأة بالفعل من هضم للحقوق ومن عنف وتسلط في كل مستويات المجتمع ,سواء كانت متعلمة أم أمية أم جاهلة , غنية أم فقيرة ..كما كانت كلمات الحرية ..المساواة..المشاركة وغيرها من الكلمات التي تدغدغ المرأة وتدفعها إلى تأمل حالتها , بل تغريها أحيانا بالثورة والنضال من أجل تحقيق وجودها ورفع الظلم عنها , مثل هذه الكلمات التي تتبنى كل منها موقفا معينا حسب المرجعيات دون تنسيق أو حوار مع المواقف الأخرى جعلتني أول الأمر أسقط في بحر لجّيّ, تتخطفني الأمواج من كل صوب ,وتتداخل في ذهني اللحظات النضالية بتشوهات تشعرني بالوحدة والغربة , لأكتشف في آخر المطاف افتقاد المرأة لأهم الأشياء التي يجب استرجاعها قبل أي شيء آخر : الذات واحترام الرجل لهذه الذات .وإذا لم نسترجع هذه الذات ,وظللنا نحاصرها في شرنقة الجسد المكشوف فإن كل البنايات في فضاء القضية سوف تنهار في جرف الضياع والتمييع , وتظل المرأة تحترق تحت سياط الاحتقار المؤدي إلى العنف والظلم وكل الويلات…
وأحس بصفاء الكلمات التي غرسها والدي في أعماقي : “المرأة ياابنتي هي نهر الأنوثة المتدفقة التي تسمو بالحس والوجدان إلى قيم المحافظة على أسمى معاني الاحترام والترابط الإنساني العميق ..نهر يتدفق غزيرا معطاء في أي موقع كان موقع الأم ,, الأخت,,الزوجة,,الحبيبة ,, الإبنة …يجب أن نحافظ على نقاء هذا النهر حتى لا تقذف فيه القاذورات , و نربي فيها الشخصية المتوازنة مع قيم حضارتها وأصالتها وكل القيم الإنسانية أينما كانت ..” وتظل الكلمات تشع في أعماقي الدفء والإصرار على متابعة الطريق عساي أشعل فتيل الاهتمام في قلب المرأة وعقلها وتحاول اكتساب احترام الرجل لذاتها ولإنسانيتها .
< الدكتورة الأديبة أم سلمى
——–
1 – كتبت هذه التوسمات قبل وفاة الوالد رحمه الله .