إعجاز الإيواء الرباني
حلول البركة في كل دار دخلها الرَّسُول صلى الله عليه وسلم :
البركة التي حلت بأسرة حليمة في دارها وأغنامها تَدُلُّ على أن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كله خير وبركة بجسده، ودعوته، وقدوته، وكذلك الصالحون من عباد اللَّه {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُومِنُونَ وَنِسَاءٌ مُومِنَاتٌ لَم تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْـرِ عِلْــمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِـــــي رَحْمَتِهِ مَــنْ يَشَــاءُ}(الفتح : 25)
وإذا كان الرَّسُول صلى الله عليه وسلم غاب جسده، فسنته وسيرته وأخلاقه ودعوته مازالت قائمة، وكم من الرحمات تتنزل على الأمة بسبب اتباع مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون}(الأنفال : 33) وبالاستغفار بعث كل الأنبياء والرُّسُل {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً…}(نوح : 10)
فتجديد الدّعوة لاتباع النبي المبتعث بالرحْمَتَيْن، والداعي إلى الحياتين السعيدين في الدَّارَيْن من أفضل وألْزَم ما تقوم به الأمة بقيادة دعاتها المخلصين لاستمرار فيض الرحمة الربانية على الإنسانية.
الإعجاز في الإيواء الرباني :
إن حليمة السعدية زهدت فيه أَولاً ليُتْمه وفقره، حيث لم يترك له أبوه إلا خمسة من الإبل، وقطيعاً من الغنم، وجارية هي بركة الحبشية، ولكنها -حليمة- اضطرت لأخذه فرأت ما لم يره أحد، ورُزقت رزقاً لا يقدر عليه إلا ربه الذي آواه، وبذلك يُعرف الفرق بين الإيواء الرباني والإيواء البشري، وبين التربية الربانية والتربية البشرية.
فهل يستطيع الأب -لو كان موجودا- أن يملأ ثَدْيَيْ حليمة باللبن ويقبلا على الرضيع اليتيم الـمُؤْوَى من اللَّه تعالى ؟ وهل يستطيع الأب -لو وُجد- أن يجعل الناقة الشارف يَحْفِلُ ضَرْعُها باللبن؟ وأن يجعل الأغنام تروح شبعا لبنّاً؟ ذلك فوق طاقة البشر، وذلك ليس مُتاحاً لكل البشر، ولكنه مُتاحٌ لعيّنة خاصة من الذِينَ اصطفاهم اللَّه تعالى ليكونوا رُسُلَهُ وعباده الأدِلاَّءَ عليه. غاب الأب لتحضر القدرة الربانية سافرة واضحة، وغاب الأب لتحضر العناية الربانية حانية حُنُوّاً لا يَعْدلُهُ حُنُوُّ البشر أجمعين، خصوصاً وأن المولود المصطفى يُعَد لشيء خارج عن دائرة الكَسْب والجَدِّ والجُهد والتمني، إنَّهُ يُعَدُّ للنبوة التي لا تُنَال إلا بالاصطفاء الربَّاني لها؟ فكم تمناها أناسٌ؟ وكم قَرَأُوا وطالَعُوا وتَحَنَّفوا لينالوها فما ظفروا بشيء، لأن اللَّه هو الأعْلَمُ بمن يستحق هذا الاصطفاء وهذا الاختيار؟؟
>كان يَعْقُوب حَيّاً يُرزَق. له شيخُوخَتُه وتجربتُه وحكمته، بل له نُبُوَّتُه. وقد نظر يوماً فلم يجدْ يُوسُف قريبا منه، إنه فقده في أخطر فترات العُمر، فترة الصبا اللَّدِن واليفَاعة الغَضَّة، ومع فساد البيئات التي احتَوَتْ يُوسُف فقد كَان باطنُه ينضج بالتُّقَى والعفاف، كما يتَّقِد المصباح في أعماء الليل الْمُدْلَهِم. فلما التقى الابْنُ بوالده بَعْدَ لَأْيٍ، رأى يَعْقُوب ابنه نَبِيّاً صِدِّيقاً.
لقد غاب عبد اللَّه وترك ابنه يتيما، بَيْد أن هذا اليتيم كان يُعَدُّ من اللَّحْظَةِ الأولى لأمْرٍ جَلَلٍ، أمْرٍ يُصْبِحُ به إِمَامَ الْمُصْطَفَيْنِ الأخيار، وما الأب والجد، ما الأقربون والأبعدون، ما الأرض والسَّماء إلا وسائل مُسَخَّرَةٌ لإتمام قَدَرِ اللَّه، وإبلاغ نِعمة اللَّه مَن اصطنعه اللَّه.<(1)
يكتبها :
ذ. المفضل فلواتي
——-
1- فقه السيرة: 62 لمُحَمَّد الغزالي. قال الفخر الرازي في كتابه المسمى بالتفسير الكبير: ما الحكمة في أنه تعالى اختار اليتيم للنبوة وتعليمه ما لميكن يعلم؟ فكان من جملة أجوبته على هذا السؤال:
< أنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أبٌ أو أمٌّ كان اعتمادُه عليهما، فَسُلِبَ عنه الوَالِدَان حتى لا يَعْتَمِد من أوَّلِ صباه إلى آخِرِ عُمُرِه على أحَدٍ سِوَى اللَّه تعالى، فيصير في طفوليَّتِهِ متشَبِّها بإِبْرَاهِيم \ في قوله: {حَسْبِيَ مِنْ سُؤَالِي عِلْمَهُ بِحَالِي} وكجواب مَرْيَم {أنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} سورة آل عمران: 37.
< أن العادة جارية بأن اليتيم لا تَخْفَى عُيُوبُه بَلْ تَظْهَرُ، وَرُبَّما زَادُوا على الموجود، فاختار اللَّه تعالى له اليُتْمَ، ليتأمَّلَ كُلُّ واحِدٍ في أحْوَالِهِ، ثم لا يَجِدُوا عليه عَيْباً فيتَّفِقُون على نزاهته، فإذا اختاره اللَّهُ للرسالة لم يَجِدُوا عليه مَطْعَناً.
< جعله اللَّه تعالى يتيماً ليعلم كُلُّ أحَدٍ أن فَضِيلَتَهُ من اللَّهِ ابْتِدَاءً لأن الذي له أبٌ، فإن أباه يَسْعَى في تعليمه وتَأْدِيبِه.
< أن اليتم والفقر نَقْصٌ في حَقِّ الخَلْقِ فلما صَار مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مع هَذَيْنِ الوصْفَيْن أكْرَم الْخَلْق كان ذلك قَلْباً لِلْعَادَةِ فكان من جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ اهـ. 31-32/219، 220.