يطرح الدكتور أكرم العمري السؤال الجوهريّ في مشروعه الفكري المتعلق بالمجتمع المدني ومنهج كتابة التاريخ الإسلامي وهو :
ما المقصود بالبحث في التاريخ الإسلامي وفق منهج المحدثين؟
ويجيب بأن المقصود هو أن للمحدثين مناهج وطرقاً في نقد الأحاديث ومعرفة الصحيح من الضعيف. والمطلوب تطبيق هذه المناهج في نقد الروايات التاريخية المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام، لجَامعٍ بينهما هو أن هذه الروايات التاريخية تشبه الأحاديث من حيث وجود الأسانيد التي تتقدم المتون، وذلك ما يتيح للناقد معرفة الرواة المتعاقبين. ومدى توافر صفات التوثيق لديهم للأخذ برواياتهم أو تركها أو إضعافها، من أجل معرفة الصحيح وتقديمه واعتماده.
ومن النتائج التي أشار الباحث إلى إمكان استخلاصها من تطبيق هذا المنهج :
1- زيادة اليقين بصحة معلوماتنا عن سيرة الرسول والتي تقدمها كتب السيرة المعتمدة.
2- إضافة معلومات تكمل جوانب حياةِ الرسول الشاملة لأمور الدين والدنيا، ولاسيما ما يتعلق بتفاصيل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والإدارية في عصر السيرة.
3- توضيح بعض الجوانب التي اختلف فيها المؤرخون والمحدثون.
4- التعديل في بعض الموضوعات المتعلقة بالسيرة التي لم تهضمها الدراسات المعاصرة المعتمدة على كتب السيرة والتواريخ فقط، مثل (نظام المؤاخاة) والوثيقة التي كتبها النبي كدستور للمدينة أول الهجرة، وغير ذلك، غير أن الباحث يدعو إلى ضرورة المرونة في تطبيق هذه القواعد.
وبعد أن قام الدكتور أكرم العمري بدراسة موجزة في مصادر السيرة النبوية بنوعيها الأصلي والتكميلي، وقدم فكرة عن أهم ما وصلنا من هذه المصادر، وعن قيمتها وكيفية استعمالها، ونبه على بعض الأمور التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، انتهى إلى أن السيرة في حاجة إلى تمحيص أسانيدها ومتونها تبعاً لقواعد المحدثين في نقد الحديث، وهو يرى أن الأمر ميسر وممكن، ومما يعين عليه أن سائر مصادر السيرة المهمة قد أوردت الروايات تتقدمها الأسانيد، وأن معظم رواة السيرة من المحدثين الذين ترجمت لهم كتب الرجال، وأوضحت حالهم وبينت ما قيل فيهم من جرح وتعديل، ولكنه يؤكد في الوقت ذاته أن ذلك لن يتأتى على الوجه الأحسن والأكمل ما لم نسدّ حاجتنا الملحة إلى مناهج شاملةٍ في النقد التاريخي والتفسير التاريخي، وبدون ذلك ستظل الدراسات التاريخية الإسلامية قاصرة وعاجزة عن التعبير -بصدق وعلمية- عن سيرة أمتنا التاريخية مالم تتكامل مناهج النقد والتفسير التاريخيين، وستظل الأمة بحاجة إلى دراسات في المستوى المقنع الذي يمثل البديل، تنبع من عقيدتها وتتكيف لتاريخها ولا تنظر إليه من خلال زاوية النظر الغربية.
بعد هذا نتساءل عن طبيعة المجتمع المدني في عهد النبوة، وعن خصائصه وتنظيماته الأولى، وهذه الجوانب يوضحها الباحث بتحديد موطن هذا المجتمع أولا، ثم يتحدث عن عناصره، وفي مقدمتهم اليهود والعرب، لينتقل إلى إبراز أثر الإسلام في المجتمع المدني، والنقلة التي أحدثها فيه وهي نقلة عميقة وشاملة في مجال العقيدة أولا، ثم في تلك الطفرة من (العقل البدائي) إلى (العقل الحضاري)، وكذلك في السلوك اليومي للانسان وما طرأ عليه من تغيير جذري. وكذلك توقف الباحث عند الهجرة وأثرها في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة وتنوعهم، وما ترتب عنها في الوقت ذاته من مشاكل اقتصادية واجتماعية كما لابد من مواجهتها بقرار حاسم فكان تشريع نظام المؤاخاة بما ترتب عنه من حقوق وواجبات حلاّ لها.
وبعد التنويه بهذا التشريع الرشيد وانعكاساته الايجابية الكثيرة ركز الباحث على آصرة العقيدة باعتبارها أساس الارتباط بين الناس، وأبرز كيف أن الإسلام أقام المجتمع المدني على أساس الحب والتكافل، وعمل على إشاعتهما وتحبيبهما إلى النفوس، حتى غدا الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد، وتوقف عند صور من حياة الفقراء في المجتمع الإسلامي الأول، وهم الذين يعرفون في الاصطلاح الاسلامي بأهل الصفة.
وختم الدكتور أكرم العمري دراسته المركزة عن المجتمع المدني في عهد النبوة، وخصائصه وتنظيماته الأولى بإعلان دستور المدينة، وهو المعاهدة التي نظم بها النبي العلاقات بين سكان المدينة، ويهدف هذا الكتاب، أو الصحيفة إلى توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات.
واعتماداً على المنهج الذي اقترحه الباحث عرَض طُرُق ورُود الوثيقة أو الصحيفة ويتطرق لمدى صحتها، وتاريخ كتابتها، ثم أورد نصها كاملا ببنودها التي بلغت سبعة وأربعين بنداً، وقد جاء في ديباجتها أو بنديها الأول والثاني :
>1- هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
2- إنهم أمة واحدة من دون الناس.. الخ<.
ثم قام بتحليل هذه الوثيقة من أجل بيان أهميتها التشريعية والتاريخية على ضوء مقاييس أهل الحديث.
وقد قام هذا التحليل على إبراز مجموعة من الأمور في هذا الدستور، وأهمها ما تضمنته وثيقة موادعة اليهود -وثيقة الحلف بين المهاجرين والأنصار- مع تحديد بنود كل منهما، وتوج هذا التحليل العام بنظرة عن نقض يهود المدينة للمعاهدة وما ترتب عنه من نتائج وأحداثٍ ومواقف، وهو في كل ذلك يعتمد الروايات الأوثق والأصح.
وإذا كان نقض اليهود في المدينة المنورة لهذه المعاهدة وما تلاه من أحداث في منطقة الحجاز عامة قد أنهى الدور العسكري والاقتصادي لليهود في هذه المنطقة، كما يقول الباحث، فإن المجال قد انفتح أمام المسملين لنشر ا لدعوة وإخضاع قبائل العرب المشركة والعمل من أجل توحيد جزيرة العرب تحت راية الاسلام.
ومن المؤكد أن استكمال صياغة أو كتابة حلقاتِ التاريخ الاسلامي من منظور سليم يرتكز على النقد المنهجي الموضوعي في التعامل مع الروايات، وينطلق من التصور الاسلامي الشامل للكون والحياة والإنسان في التفسير التاريخي، من شأنه، كما يقول الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد الأستاذ بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة، في تقديمه لهذه الدراسة أن يلبي حاجة الأمة الملحة إلى صياغة جديدة لتاريخها، وفق رؤية متجددة تتسم بالاعتزاز بالذات والحفاظ على السمات، والبعد عن الاغتراب والضياع، وتتيح وقوف نهضتها الحاضرة على قاعدة صلبة من الماضي، وتتجنب الانقطاع الحضاري وما يولده من ضياع وإحباط في نفوس أبناء الأمة.