تفقه في دينك : حكم الولي في عقد النكاح الشرعي (2)


استدلال الحنفية

استدل الحنفية ومن ذهب مذهبهم -من أن للبكر الحرة، البالغة، العاقلة، أن تَلِيَ عقد النكاح لنفسها ولغيرها، وأن توَكِّلَ به من شاءت، وأنه لا يُشْترط الوليُّ في صحة نكــــاح البالغة بأدلة منها :

1) قوله تعالى : {فلاَ تَعضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنَّ}(البقرة : 232) قالوا : أضاف النكاح إليهنّ إضافة الفعلِ إلى فاعله، والتصرفِ إلى مباشره، ونهى عن منعهن من ذلك، وقوله تعالى : {فلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم فيمَ فَعَلْن في أنْفُسِهِنّ بالمَعْرُوف}(البقرة : 234). قالوا : وتزويجُها نفْسها من الكفء، فِعْلٌ بالمعروف، فوجب أن يصح، ومنه قوله تعالى : {حتَّى تَنْكِح زَوْجاً غيْره}(البقرة : 230)، ولا يتصور النكاح هنا بغير العقد، وهي الفاعل فيه.

2) وما رواه مسلم في صحيحه(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي  قال : >الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليِّها والبكر تُسْتأذن في نفسها، وإذْنُها صُماتها< وفي رواية >الثيب أحقّ بنفسها من وليها والبكر تُسْتأمر، وإذْنُها سُكُوتها< وفي رواية : >وصَمْتُها إقْرَارُها<. وجه الدلالة(2) أنه شارك بينها وبين الولي، ثم قدمها بقوله : أحق، وقد صح العقد منه، فوجب أن يصح منها، قال ابن الجوزي : في التحقيق والجواب أنه أثبت لها حقا، وجعلها أحق، لأنه ليس للولي إلا المباشرة، ولا يجوز له أن يُزَوِّجها إلا بإذنها، فقوله  : >أحق بنفسها< يحتمل من حيث اللفظ أن المرأة أحق من وليها في كل شيء من عقد وغيره، وبه قال أبو حنيفة وداود(3).

3) وما رواه مسلم(4) أيضا عن أبي هريرة ] أن رسول الله  قال : > لا تُنكح الأيِّم حتى تُسْتأمرولاتُنْكح البِكْر حتى تُسْتأْذن< قالوا يا رسول  الله وكيف إذنها؟ قال : >أنْ تَسْكُتْ<.

علما بأن كلمة >الأيّم> تطلق على امرة لا زوج لها، بكرا كانت أو ثيبا، مُطلقَة كانت أو متوفّى عنها. وقد فسر بعضهم >الأيّم< بالثيب وعلى هذا فإن الحديث يختص بالبوالغ(5)، وهذا ظاهر، لأن الاستئمار والاستئذان إنما يكونان في حقّ مَن له الإذن، أو يملك أمر نفسه، ولا كذلك الصغيرة، لأنها لا إذن لها، فلا تكون مُرادَة، لذا قال الأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهما من الكوفيين يجب الاستئذان في كلّ بكر بالغة.

فإن قيل : ما فائدة ذكر >البكر> ما دام لفظ >الأيّم< يشملها؟ قالوا : لئلا يتوهم أن البكر -لغلبة الحياء عليها- خارجة عن العموم، فأظهر النبي  أن حكمها كذلك، فهذا التخصيص بعد العموم لبيان الفرق بين الإذْنين، إذْن الثيب وإذْن البكر، ويؤيده قولهم في الحديث : >وكيف إذنها؟< يعني إن البكر تستحيي. فكيف تعتبر إجازتها وهي ساكتة؟! كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم(6) قالت : فقلتُ له  فإنها تستحيي، فقال لها رسول الله  >فذلك إذْنها إذا سكتت<.

قالوا :ومع هذا فإن مطلوبنا ثابت، ومحصل هذه الألفاظ المختلفة والروايات المتعددة : أن الثيب تستأمر، وهي أحق بنفسها من وليها كما أفاد الحديث السابق فقد جعل لها في نفسها في النكاح حقا، ولوليها حقا، وحقها أوكد من حقه، فإنه لو أراد تزويجها كفئا وامتنعت لم تُجْبَر ولو أرادت أن تتَزَوّج كفئا فامتنع الولي، أُجْبِر، فدلّ على تأكيد حقهاورُجْحانه، وهذا يفيد جواز نكاح الثيب بدون الولي.

والبكر أيضا تستأمر، وإنما بيّن حُكْم كلٍّ على حدة، للاهتمام بشأنها.

وأما الثيب الصغيرة فلا ولاية لها على نفسها ومالِها، فلا يعتبر استئذانها لأنها لا عبارة لها.

قال ابن حزم(7) ما نعلم لمن أجاز على البكر البالغة انكاح أبيها لها بغير أمرها متعلقا أصلا، وإليه ذهب ابن جرير(8) أيضا فقال : إن البكر البالغة لا تُجبر، وإليه ذهب البخاري(9) فقال : لا يُنكِح الأب وغيره البكر، والثيب إلا برضاهما، وقال(10) : إذا زوج الرجل بنته وهي كارهة، فنكاحه مردود. وعلى هذا(11) فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها بكرا كانت أو ثيبا، وعقْدُها على نفسها النكاح صحيح، وبه قال الشعبي والزهري قالوا : وليس الولي من أركان صحة النكاح بل من تمامه.

4) وما أخرجه أبو داود، والنسائي وابن ماجة  وأحمد في (مسنده) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : >أن جارية بكرا أتت النبي  فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخَيّرها النبي <(12).

وما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي  ردّ نكاح بكرٍ وثيبٍ أنكَحَهما أبوهما وهما كارهتان فرد النبي عليه السلام نكاحهُما(13).

وما أخرجه النسائي وأحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : جاءت فتاة إلى رسول الله  فقالت : يا رسول الله : إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خَسِيسَتَه، فجعل الأمر إليها، قالت : فإني قد أجَزْتُ ما صنَع أبي، ولكنْ أردتُ أن تعلمَ النساءُ أن ليس للآباء من الأمر شيء(14)، وفي رواية : >أردت أن أعْلِم النساء<.

وما رواه البخاري عن خنساء بنت خِدام الأنصارية : أن أباها زوّجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله  فرد نكاحها(15).

وما أخرجه سعيد بن منصور عن أبي سلمة : جاءت امرأة إلى رسول الله  فقالت : إن أبي أنكحني رجلا وأنا كارهة، فقال لأبيها : >لا نكاح لك، اذهبي فانكحي من شئت<(16).

5) قالوا(17) : وجه الجواز من حيث النظر : أنها تصرَّفَتْ في خالص حقها، وهي من أهله، لكونها عاقلة بالغة، فهي من أهل المباشرة، ولهذا كان لها التصرف في المال، وصح منها، كبيع أمتِها، ولأنها إذا ملكت بيع أمتِها وهو تصرّف في رقبتها وسائر منافعها، ففي النكاح الذي هو عقد على بعض منافعها أولى، ولهذا كان لها اختيار الأزواج، فلاتُزَوَّج ممن لا ترضاه.

وإنما يُطالب الولي بالتزويج إذا طالبته، كيلا تُنْسَب إلى الوقاحة بمباشرة هذا التصرف، فجُعل التصرفُ من الولي في خالص حقها واجبا عليه، صيانة لها عن النسبة إليه.

قال الطحاوي : وأما النظر في ذلك فإنا قد رأينا المرأة قبل بلوغها، يجوز أمر والدها عليها في بُضْعها ومالها، فيكون العقد في ذلك كله إليه لا إليها، وحكمه في ذلك كله حكم واحد غير مختلف. فإذا بلغت، فكلٌّ قد أجمع أن ولايته على مالها قد ارتفعت، وأن ما كان إليه من العقد عليها في مالها في صغرها قد عاد إليها، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك العقد على بُضعها يخْرُج ذلك من يد أبيها ببلوغها، فيكون ما كان إليه من ذلك قبل بلوغها قد عاد إليها، ويستوي حكمها في مالها وفي بُضعها بعد البلوغ، فيكون ذلك إليها دون أبيها، ويكون حكمها مستويا بعد بلوغها، كماكان مستويا قبل بلوغها(18).

قال النووي : واحتج أبو حنيفة بالقياس على البيع وغيره، فإنها تَسْتقِلّ فيه بلا ولي -أي قاس حقها في التصرف في بُضعها على حقها في التصرف في أموالها-.. وحَمَل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الأمة والصغيرة وخَصّ عُمومها بهذا القياس، وتخصيص العموم بالقياس جائز عند كثير من أهل الأصول(19).

———–

1- صحيح مسلم والحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري كما في نصب الراية للزيلعي 231/3.

2- نصب الراية للزيلعي 231/3.

3- شرح صحيح مسلم للإمام النووي 221/5.

4- صحيح مسلم رقم 1419 1036/2.

5- اعلاء السنن لظفر أحمد العثماني 65/11.

6- صحيح مسلم رقم 1420 1037/2.

7- المحلى لابن حزم 462/9.

8- المرجع السابق.

9- صحيح البخاري من كتاب النكاح، فتح الباري 191/9.

10- صحيح البخاري الباب 42 كتاب النكاح فتح الباري 67 194/9.

11- شرح الإمام النووي لصحيح مسلم 221/5.

12- رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد فــي المسند 273/1.

13- فتح الباري 196/9 وانظر نصب الراية 240/3.

14- سنن النسائي، ومسند أحمد وابن ماجة واللفظ لأحمد قال في الزوائد : اسناده صحيح، كما في تعليق المحقق على سنن ابن ماجة 603/1.

15- صحيح البخاري الفتح 194/9.

16- قال في الدارية : وهذا مرسل جيد، كما في اعلاء السنن 66/11.

17- المغني لابن قدامة الحنبلي، وفتح القدير، شرح الهداية، وشرح معاني الآثار، للطحاوي ويُراجع للتدليل لمذهب الحنفية بالمنقول والمعقول هذا الكتاب المذكور 7/3، فقد وفى الموضوع حقه، وكذلك كتاب نصب الراية للزيلعي 231/3 وما بعدها وكتاب اعلاء السنن للعثماني 65/11 والهداية وشروحها، وخصوصا فتح القدير وما كتب عليها وعليه من الشروح والحواشي 246/3.

18- شرح معاني الآثار للطحاوي 13/2.

19- شرح الإمام النووي لصحيح مسلم، ومثله في فتح الباري لابن حجر 187/9.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>