لقد تبين من خلال ردود الفعل على ما يحدث في العراق – شرقا وغربا – أنه ما يزال هناك بقية خير، ولا تزال بعض الضمائر حية وواعية وقادرة على الجهر باستنكار الظلم ورفض الاعتداءات، وشجب كل ما من شأنه أن يستهين بكرامة الإنسان، أي إنسان، في أي مكان أو زمان، وأن تقول لا للظالم، وأن تحتج ولو بالكلام، ولا تسقط في مؤامرة الصمت الذي يعكس السلبية الفادحة في الموقف.
من المؤكد أن مأساة العراق ذات أبعاد متعددة، قد لا تظهر كلها اليوم للرأي العام، لأنها كثيرة ومتداخلة ومحبوكة بعناية فائقة، وستكشف الأيام بدون شك عن كثير مما يخفى اليوم على الناس، ولكن من الواضح الجلي أنها تمثل في جانب من جوانبها غطاء للقضية الفلسطينية، عن قصد أو غير قصد، ولكن بطريقة محبوكة جدا، تدل على براعة صاحب القرار وتمكنه من صياغة المشاهد المسرحية التي تنكشف أحداثها شيئا فشيئا، وإلا فكيف يمكن تفسير الاكتساح الإسرائيلي الممنهج للأراضي الفلسطينية؟ وإقامتها للجدار العازل المخزي لبناته؟ المهين لقيم التعايش والتواصل؟ولا سيما بعد أن تخلص الناس من عار جدار برلين الذي مثل وصمة عار في جبين البشرية، ونتيجة دنيئة من نتائج الحرب العالمية الثانية اللعينة، وكيف يمكن تعليل استهانة إسرائيل بكل وقاحة بالاتفاقات الدولية، والقرارات الأممية؟.وتجاهلها لخارطة الطريق التي جاءت من صاحبة نعمتها، وذلك بعد اضطرار الفلسطينيين إلى تبنيها كحبل واه لاستمرار الحوار، وخيط بسيط يصلهم بقضيتهم حتى لا يتهموا بالعرقلة فيحرموا من كل شيء؟ وكيف يمكن تفسير مؤامرة الصمت على ما تقوم به إسرائيل من تقتيل عشوائي للكبار والصغار، وهدم البيوت على أصحابها ، واغتيال من يدافعون عن مقدساتهم ويحتجون على انتهاك حرماتهم واغتصاب أرضهم؟ ولماذا لا يستطيع أحد أن يضع حدا لتعنت إسرائيل المدللة التي استطاعت أن تتمركز في الديار الفلسطينية شوكة في جنب العرب بفضل وعد بلفور، ثم هاهي تجدد هذا التمكن وتتمادى في غيها ودلالها بفضل وعد بوش؟
وللذين يقرؤون ويتذكرون ما قرأوا ويعتبرون بما يقرؤون ، وللذين لا يكلفون أنفسهم عناء القراءة أيضا، فالأحداث والسيناريوهات التي قامت عليها مأساة العراق الحالية، بملابساتها وتداعياتها وأبعادها وأهدافها القريبة والبعيدة، الظاهرة والخفية، متضمنة في معظمها في مذكرات كيسينجر وما يرتبط منها بأحداث الخليج والشرق الأوسط خاصة، والصدام الدامي الذي يحصد الأبرياء من أبناء العراق من جهة، والعدد المتزايد من المغرر بهم من شباب أمريكا وحفائها، ذكورا وإناثا من جهة أخرى، المدفوعين بشتى الوسائل الظاهرة والخفية بما فيها التخدير والتمويه والمغالطة والتهديد والتوريط وقتل الضمائر والاستهانة بالقيم وما إلى ذلك من العوامل النفسية التي تجعل الجندي يطيع طاعة عمياء، ويقتحم الأخطار وهو فاقد لوعيه، ويقتل الأبرياء دون جناية أو داع منطقي معقول، وغير ذلك من الأمور التي تدخل في علم الحرب، ولا أدل على ذلك من تمرد مجموعة من المجندين وفرارهم من الخدمة حين تصحو ضمائرهم ويستعيدون وعيهم، فينفرون من الحرب القذرة المدمرة للقيم، ولعل أفظع ما اقترفه الإنسان في حياته عبر التاريخ، ولا يزال يقترفه بإصرار وتعنت، هو الحرب بويلاتها ومآسيها التي تأتي على الأخضر واليابس، وتزهق الأرواح بالملايين ظلما وعدوانا في الغالب، ولو صرف عشر ما ينفق على الحرب والتسلح والغزو في معالجة الأمراض، والقضاء على الفقر، ومحو الأمية، ونشر التعليم، وتطهير البيئة الملوثة المهددة لسلامة الناس في إفريقيا وآسيا وغيرهما من بلاد الله، وفي سبيل غير ذلك من القيم النبيلة السامية التي يتشدق بها عدد من الناس ويتخذونها شعرا، ويدوسونها عمليا بطرق مختلفة، لعاش الناس في وئام وسلام، ولتجنبت الإنسانية هذه الألوان من التدمير والتقتيل والتخريب بطريقة عشوائية.
ولا تغيب عن هذا الصدام الظالم أيضا أصابع الباحث صمويل هانتيجتون، أحد صانعي القرار في أمريكا، فقد كان هو المبشر قبل سنوات قليلة، بعد انهيار المعسكر الشرقي، بانتقال الصدام من المواجهة الشيوعية والرأسمالية، إلى الصدام بين الرأسمالية الغربية والإسلام، وغاب عنه أن الإسلام لم يثبت أنه اعتمد أسلوب الصدام في انتشاره، وإنما شعاره الدائم هو الوسطية والجدل بالتي هي أحسن، وبذلك كان دائما دين السلام، ودين التعايش والوئام والحوار والإقناع بالنقل والعقل معا، وادعاء هانتجتون مغالطة فادحة من صانعي القرار في الغرب، يتحملون مسؤولية نتائجها الوخيمة، كما يتحمل المسلمون من المثقفين والعلماء، أفرادا ومؤسسات،مسؤولية تقاعسهم عن تصحيح المفاهيم والتصورات لدى الآخر، ليس باللغة العربية وحدها، وليس بمخاطبة أبناء جلدتهم وعقيدتهم حصرا، ولكن ذلك لا يمكن أن يؤتي أكله إلا بالتوجه إلى الآخر بالخطاب الصحيح المقنع الذي ينبع من حقيقة الإسلام، صافيا من كدر التطرف والمغالاة، بعيدا عن التحريف والتأويل، ولا سيما بعد شيوع مجموعة من المصطلحات والمفاهيم التي لا تخلو من خلط وتمويه، ومن مغالطة وتشويه، بل ومن تآمر بهدف التحريف، في ظل ما غدا يعرف بالعولمة، وبعد شيوع مصطلح الإرهاب الذي غدا ذا حدين في ارتباط لدى الآخر بالعرب والمسلمين قبل غيرهم، بعد 11 شتنبر، و16 ماي في المغرب،، و11 مارس في إسبانيا، وما حدث في تركيا والمملكة العربية السعودية وغيرها، ولا شك أن تأمل مسرح الأحداث التي تجمع بين عالم الغرب والعالم العربي والإسلامي،والبحث في شخصيات الفاعلين، وهم من جنسيات متعددة، ومن أعمار لا تزيد عن سن الشباب في الغالب، واستعراض وسائل تنفيذ الأفعال الدنيئة من متفجرات من شأنها أن تزيد من توسيع دائرة الخسائر مكانا وعددا، وتجعل العمليات المنفذة أقرب إلى العشوائية، وتنم عن عدم تقدير العواقب، واللجوء إلى طريقة الانتحار المجاني الذي لا يحقق أي فائدة للجناة ولا لمن يغرر بهم ويشحنهم ويبث في نفوسهم شحنة الانتقام الأسود، وينزع من قلوبهم الرحمة الإنسانية، ويقتل روح المواطنة فيهم، كل ذلك مما يزيد من رفع وتيرة النقمة في العراق وفلسطين، وينعكس سلبا على حياة المهاجرين العرب والمسلمين في ديار الغرب فيُسَامون سوء العذاب، ويعانون من أصناف التحرش والاستفزاز يوميا، بدون ذنب اقترفوه، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
ولكن مهما كانت الظروف والأحوال، فإن هذا لا يُسَوِّغ مواجهة العنف بالعنف دائما، دون البحث العميق الشامل المشترك، والدراسة المتأنية المتعلقة بالأسباب والملابسات، واقتراح الحلول الكفيلة باستئصال الداء ومعالجته والحد من تفاقمه بدل زرع المزيد من السماد لانتشاره وتمكينه وتعميمه.
إن ما يقوله الآخرون ويرجعون له من أجل تسويغ تصرفاتهم ليس بريئا دائما، ولا يخضع بالضرورة لتحليل موضوعي أو استقصاء شامل لمختلف العوامل والأسباب، فإذا كان الهدف هو صَدَّام ونظامه، فهاهو قد زال، وإذا كان الهدف هو ما يدَّعون من امتلاك صدام لأسلحة الدمار الشامل فهو لم يستطع حماية نفسه لا بذلك السلاح ولا بغيره، كما لم يحم بلاده، ولذلك فقد آن الأوان للتخلص من رواسب الحروب الصليبية المقيتة التي ملأت النفوس حقدا وضغينة على الشرق كل ما هو شرقي، غير أن ذلك لا يمكن أن يتحقق عند هؤلاء أنفسهم، لأن اكتشاف الحقيقة والعودة إلى الصواب قد يستغرق وقتا طويلا جدا، وقد لا يتهيأ الأمر عمليا لأسباب ذاتية وموضوعية ، ولذلك فالمسؤولية ملقاة على أبناء هذا الشرف أنفسهم، من أجل التصحيح والتوضيح والترشيد، وفتح أبواب الحوار الإيجابي الموضوعي المراعي للمصالح الإنسانية المشتركة، بعيدا عن كل حقد أو تشنج أو انفعال.
أيها العرب، أيها المسلمون ، أنتم أمة قارئة، فكونوا قارئين بالقوة وبالفعل، واقرؤوا،ولا تنسوا قراءة التاريخ، تاريخ البشرية جمعاء، قديمه وحديثه، وَعُوا ما تقرؤون واعتبروا به، فالتاريخ مليء بالعبر والدروس، واستحضروا هذه العبر والدروس في حياتكم ، واستعيدوا ذاكرتكم لاستعاب تلك الدروس والعبر، وأحسنوا توظيفها تنتفعوا بها إن شاء الله عز وجل ، لأنه لا فائدة من قراءة دون استفادة، ولا قيمة لتاريخ دون عبر.
أيها الأحرار في العالم، أيها المسلمون أيها القادة المحبون لشعوبهم، المتشبعون بروح الوحدة والتضامن، المدافعون عن القيم النبيلة، المنافحون عن الحرية والكرامة، المُؤْثِرون للخير والعدل، أيتها الهيئات والجمعيات المدنية، أيها الشجعان في كل مكان ، إن الأرض ومن عليها وما فيها، يناشدونكم ويخاطبون ضمائركم الحية، وعقولكم الواعية : أنقذوا الإنسانية في العراق ، ولا تنسوا الإنسانية في فلسطين.