يكذب من يمكن أن يقول :
إن الشعوب ليست كالفرد، تحزن، وتفرح، تتَّقد حماساً أحيانا، وتصاب باليأس والإحباط أحياناً أخرى.
ولقد بادرت الكثيرُ من الفضائيات إلى استجواب الكثير من الأفراد -قبل انعقاد مؤتمر القمة العربية بقليل- عن مشاعرهم، فكانت أجوبتهم -في معظمها- لا ترجو خيراً، ولا تنتظر فرجاً، ولا تأمل مستقبلا، فكُلُّها تصبُّ في حُفَر اليأس والبؤس والإحباط.
ويكذب من يمكن أن يقول :
إن الشعوب لا تغار، كما يغَار الأفراد، خصوصاً عندما تكون متيقنةً أنها لا تقِل مؤهلاتٍ ولا إمكاناتٍ عن شعوب الكرة الأرضية جمعاء، ومع ذلك فالشعوبُ مِنْ حَوْلِ الشعوب العربية والإسلامية تتقدم كل يوم، وكل سنة، وكل قرن، والشعوب العربية جامدة في يومها، وغدها، وسنتها، وقرْنها، كأنها شعوب محنّطَةٌ لا روح فيها ولا حياة. الشعوبُ مِنْ حَوْلِها تصْنَع المفاجآتِ، وتستثمِرُ المتغيِّرات، لفرض الإرادات : إرادةِ التحسُّن السياسي، وإرادةِ التحسن الاقتصادي، وإرادةِ السلام الاجتماعي، وإرادة العيش الكريم، وإرادةِ التطويح بمَنْ سوَّلتْ له نفسه التصَنُّمَ وإمْلاءَ أهوائه على الشعوب بغير حق.
هَلْ هناك مفاجأة أكْبَر من أن يطوِّح شعبٌ مثل شعبِ اسبانيا بسياسة حِزْبٍ يعتمد منهج التبعية، والحقدوالكراهية، ويأتي بحزب ينتهج سياسة التحاوروالتعايش بدون خلفيات التعصُّب المقيت، والتطلّع المشين لفرض الهيمنة، وإحْياء عقلية الاستعلاء والتعاظم الأجوف.
وهل هناك مفاجأة أكْبَرُ من أن يطوِّح شعب مثل شعب الهند بسياسة حزب كان يحابي الكبراء على حساب الفقراء، ويأتي بحزْبٍ ينتهج سياسة الرّفع من قيمة المُهَمَّشين بدون تهميش المحظوظين، وتكون المفاجأة أكبرَ وأعْظم حينما يتسلَّم رئاسةَ الحكومةرجُلٌ سِيخِيٌّ من رئيس الدّولة المُسْلِم لشعب علماني يتعدّى سُكّانه المِلْيَار، ومع ذلك يتعايش سكانُه بكل الأديان والمعتقدات والأطياف العرقية والسياسية تعايُشا كريما، يرضَوْن بما تُقرِّرُه الصناديق وما تفرزه الإرادات والتطلعات بدون تبرُّم أو امتعاض.
وكيف لا تغار شعوبنا وهي ترى شعوب الأرض كلها تعيش في سلام ووئام، وهي تعيش في خراب ودمار؟؟ وكيف لا تغار وشعوب الأرض كلها تعيش في حريّة وطلاقة، تعبِّر عن فِكرها وعواطفِها كيف شاءت، تعارض كيف شاءت، وتؤيد كيف شاءت، وتستنكر متى شاءت، وتصرخ أنَّى شاءت، وتنتقد حكامها كيف شاءت، بدون خوف لا من حراس الليل ولا من حراس النهار، وبدون خوف لا من زوّار الفجر، ولا مِنْ كُتّاب الملفات ومُحْصِي الأنفاس. بينما شعوبُنا تعيش في سُجون كبيرة وسط أقفاص قانونية، وأقفال حديدية، ومراصد قَهرية، ومحاكم جاهزة، وتكميمات، وحصارات على الفكر والصُّراخ حاضرة؟!
وكيف لا تغار وهي ترى شعوب الأرض تُعَامَل معاملة زَمَنِ الثورة العلمية والإعلامية، وتُخاطب بلغة القرن الواحد والعشرين، وهي لا تزال تُعامَل معاملة عَصْر الحجَر والمَدَرِ، وتُخَاطَبُ بلغة الحديد والخشب التي كان يتكلم بها طغاة ما قبل التاريخ؟؟
لغة {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِن المَرْجُومِينَ}(الشعراء).
ولغة {مَا نَرَاكَ إلاَّ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِين}(الأعراف)
ولغة {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أرَى وَمَا أهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(غافر)
ولغة {أنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}(البقرة)
ولغة {مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أنْتَ عَلَيْنَا بَعَزِيزٍ}(هود)؟؟!
فلغة الإسلام شطَّبَتْ على كل روائح الغطرسة والتكبر، ووَأدَتْها في الضمائر والنزغات الشيطانية، وجاءت بلغاتِ الإكرام، والحريْة، والعدْل، والمساواة، والطاعة المبصرة، والعزة الإيمانية، والرفعة الخلقية، وقالت لخير الرسل وخير الأنام {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أنْتَ مُذَكِّرْ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمُسَيْطِر}(الغاشية) لنتعلَّم ويتعلَّم العالَم سياسة الخَلْقِ بالرحمة والشفقة واللين والصَّبْر على جهلهم وشغبهم وأذاهم، حتى تَصِل السفينةُ إلى بَرّ السلام والأمن والعدل والتقدم والازدهار.
ولقد طبَّق الرسول الأكرم هذه السياسة الرحيمة حتى معَ من جَهِل عليه ولم يعرف قَدْره، بل حتى مَعَ من جاء ليغتاله، ألم يقل للذين أخرجوه وتآمروا على قتله : اذهبوا فأنتم الطلقاء؟! ألم يقابِلْ عصيان رُماة أحُدٍ بالعفو والاستغفار؟؟ ألم يتجاوَزْ عن خطإِ حاطب بن أبي بلتعة ] يوم كتب رسالة إلى قريش يفشي فيها سر الرسول ؟! وهو خطأ يصل -في عُرْف السياسة المتجردة عن الرحمة- إلى درجة الخيانة العظمى؟؟
وتعلم من النبي الكريم تلامذتُه المخلصون مبدأ السياسة الرحيمة بالخلق، فقال أبو بكر ] >وُلِّيتُ علَيْكم ولَسْتُ بخَيْرِكم فَإِن أصَبْتُ فأَعِينُونِي وإِنْ أخْطَأَت فَقَوِّمُونِي< وقال عمر ] عندما قال له بعض الصحابة : لَوْ رَأَىْنَا فِيك اعْوِجَاجاً لقوَّمْناكُ بِسُيُوفِنا، قال : >الحَمْدُ للهِ الذي جَعَلَ فِي أُمَّةِ مُحمدٍ مَنْ يُقَوِّمُ عُمَر بِسَيْفِهِ< أو كما قال.
فلماذا لم يتعلّم كبار قومنا من دينهم الذي يقول فيه نبيهم : >ثَلاَثةٌ لا تُجَاوِزُ صلاتُهم آذانَهُمْ : العبدُ الآبِق حتَّى يرجِعَ، وامرأَةٌ باتتْ وزوْجُهَا عليهَا سَاخِطٌ، وإِمَامُ قومٍ وهُمْ لَهُ كَارِهُون<(الترمذي وأبو داود) فالدِّىن يسْحَبُ شرعيّة الإمامة في الصلاة عن الإمام إذا كان مكروها مبغوضا، فما بالك بإمامة الدين والدنيا، وإذا أراد كبارُ قومنا أن يعرفوا أقدارهم عند شعوبهم فلْيُفسحوا المجال الحر للتصويت الحر، ولينظروا هل يحصلون على مهازل التسْعاتِ الأربع (99.99) أم على الأصفار، إنهم يعرفون هذه العورات ويتستَّرون عليها بالتعديلات الدستورية بَيْن الحين والآخر ليضمنوا الاستمرار إلى حين نزول الأقدار.
كل بلاد الدنيا تعرف مواطنين أصبحوا رؤساء، ثم انتهت رئاستهم فأصبحوا مواطنين ككل الناس، يعيشون معززين مكرمين، أما عندنا فهذا النوع بالغٌ النُّدْرةِ والقلة لا يتعدى بالكاد أربعة رجال عرفهم القرن الماضي، ولكل واحد ظرفه الخاص.
وإذْ لم يتعلموا من دينهم كان الأَوْلَى بهم أن يتعلموا من مرجعيات الحداثة التي يأتي على رأسها تنظيم التداوُل بدون فوضى ولا ثورة ولا انقلاب ولا إراقة دم، حتى يُضْمَن استمرار التجديد، واستمرار التقدم، واستمرار الحياة الكريمة لكل أفراد الشعب.
ألا يستحيي الذين حصلوا على الأصفار حتى في احتضان لعبة الكرة، فما بالك بلعبة السياسة؟! ألا يستحيي الذين مازالوا يتظاهرون بالعنتريات الإعلامية والدنيا كلها تعرف مقدار القرابين التي يقدمونها لأزلامهم عَلَّهم يكسبون الرضا والمودة؟؟
وألا يستحيي الذين يُطِلُّون من على الشاشة بوجوه عابسة كالحة يُرعدون ويُبرقون، ويُرْغون ويُزبدُون، مهددين متوعدين رجال العلم والفكر والسياسة والثقافة بالاستئصال والاقتلاع من على ظهر الدنيا؟؟ ذنَبهم الوحيد أنهم يطالبون بالارتفاع إلى مستوى الدين الحق، الذي لا يتعارض أبداً مع الحداثة الحقة من منظور العقل الرشيد؟؟ والدنيا كلها تعرف أن هؤلاء المستأصلين لا يملكون مشاريع في مستوى العصروالمصر. فلماذا الشطط في دعوى امتلاك الحقيقة، والحقيقةُ -في الحقيقة- لا يملكها إلا الله عز وجل ومجموع الأمة الراسخةِ في العلم والتقوى، والراسخةِ في الاغتراف من السنن الربانية الخالدة.
إن الله تعالى قال : {وقُولُوا للِنَّاسِ حُسْناً}(البقرة) هذا لمُطْلَق الناس، أما للمومنين فقال الله تعالى لرسوله : {واخْفِضْ جَنَاحَكَ للمومِنِين}(الحجر) وقال في علاقة المومنين بعضهم ببعض {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(الفتح) {أَذِلَّةٍ على المُومِنِينَ}(المائدة) فلماذا ينظر كبارُ قومنا إلى صغار قومنا نظرة السادة للعبيد؟؟ إنها الكارثة التي حَفَرَتْ أخَادِيدَ من سوء الظن وانعدام الثقة بين القمة والقاعدة، الأمر الذي سهَّل للأعداء سُبُل التآمر والتحريض على الفِتن من أجل شَدِّ القَبْضَةِ على الأمة وخنْق أنفاسها لتعويق مَسِيرتها الحضارية والدّعوية والإنمائية.
لقد كان مؤمَّل الشعوب العربية أن يكون الإصلاح السياسي على رأس جدول القمة السادسة عشرة المنعقدة بتونس، ولكن لخوَر العزيمة وضعف الإرادة الصادقة أُجِّلت هذه النقطة، ودُحْرجَتْ إلى أجل غير مُسمَّى -خصوصاً بعد الشعور بخفة ضغط النظام العالمي على هذه النقطة- لأن السياسيَّ المنطلقِ من مبادئ الإسلام، ومن الذات الإسلامية المتفاعلة مع هذه المبادئ قد افتقدناه منذ الثلث الأخير من القرن الهجريّ الأول، وعندما ضيَّعنا المفتاح واكتشفته دول الحداثة اضطُرُّوا إلى فتح أبوابنا به لتسويق كل مُنتَجاتهم الفكرية والمادية إلينا، إلا أن تراكم التخلف -في ميدان الشورى والحكم- المتوارث عقّد أمْر الاستجابة السريعة للإصلاح السياسي الديمقراطي رغم الضغُوط الداخلية المستفزَّة لكبار قومنا، سواء في ميدان حرية التعبير، أو حقوق الإنسان، أو حق التحاكم العادل، أو حق المشاركة السياسية بدون تحجير وحواجز، أو حق تَسْيِيدِ القانون واعتباره فوق الأشخاص والذوات إلى غير ذلك من النقط الحساسة التي تحاصر كبار قومنا في عصر الفضائيات الفاضحة، فلا يستطيعون مواجهتها إلا بصَبِّ جامِّ غضبهم على المعارضين المنادين بالإصلاح الشامل للّحاق بالركب، والعيش في مستوى العصر. وهذا هو مصدر الخطابات المتشنِّجَة الموجّهة للرعايا أو للعبيد في نظر بعض الكبار الذين مازالوا نائمين في عصر الإقطاع والحريم، محاولين الاستئساد والاستقواء بالآلات الاستخبارية الجهنمية، غير ذاكرين تماما قول الرسول للرجل الذي قال : يا رسول الله قُلْ لي قولاً وأقْلِلْ عَلَيَّ لَعَلِّي أعقله، فقال له : >لاَ تَغْضَبْ<(رواه أحمد).
فلماذا أوصاه بعدم الغضب؟؟ لأن الغضب عندما يكونُ للنفس، وليس لله، يسُدُّ كل منافذ التعقُّل والترزُّن فتصْدُر تحت ضغطه الأقوال والأفعال والقرارات غير المتزنة، ومن هنا كان لزاماً على المسؤولين أن يحيطوا أنفسهم بالكثير من الضوابط القانونية، والمحطات الجماعية الرقيبة، حتى يكون المسؤول -إذا تكلم أو قرر- يتكلَّمْ ويُقرّرُ باسم ضمير الشعب أو الأمة.
فهل كان المسؤول الذي أضفى على نفسه ألقاباً منحوتة من القرون الغابرة، مثل : الزّعيم الأوْحَد، والرَّئِيسالأمْجَدُ، والذي أضفى على نفسه : بطل القومية، وبطل العروبة، وغيرهم ممن أضفوا على أنفسهم درجة التقديس، هل هؤلاء كانوا ينطلقون من منطلق التفاني في خدمة مصالح الشعوب، أم كانوا ينطلقون من منطلَق عبادة الذات؟؟ هل كان يستطيع أي واحد أن يُغْضب هؤلاء بأدنى إشارة أو أدنى اعتراض؟؟ لقد وصل البعض من أمثال هؤلاء إلى أن يقول علناً {لاَ أُسَْأَلُ عَمَّا أَفْعَلْ} وهل يستطيع أي واحد أن يقول لكبار قومنا : لماذا تُضحكون علينا الأمم بتشاتُمكم وتهاتُركم أثناء انعقاد قممكم؟! وهل يستطيع أي واحد أن يقول لمن ينسحب غاضبا ويعقد ندوة صحفية احتجاجا على مخالفة رأيه : هل ذلك هو أسلوب الحوار الحضاري؟! وهل ذلك الانسحاب يكرس عوامل الوحدة أو عوامل الفرقة؟! وهل انسحابك هو رَأْيُ شعبك؟! وهل كنت مطلعا على جدول الأعمال أم فوجئت به؟؟ وهل لم يكن من أسلوب آخر للاحتجاج غير ذلك؟! أسئلة عديدة مُحْتَبَسة داخل الحناجر المختنقة لا تستطيع الشعوب المقهورة الإفصاح عنها، كما تستطيع الشعوب الحرة أن تتظاهر وتصرخ وتعبر عن احتجاجها بأي شكل من الأشكال.
إن رسولنا بَيّن لنا أن الإنسان يكون أضْعَف ما يكون حين يتصرف تحت تأثير الغضب وضغطه، وأنّه أقوى ما يكون حين يكظم غيظه، ويملك نفسه عند الغضب فقال : >لَيْس الشديدُ بالصُّرعَة، ولكِنّ الشّدِيد الذي يمْلِكُ نَفْسَهُ عِند الغَضَب<(رواه الشيخان).
لأن الذي يملك نفسه عند الغضب يدُلُّ :
1) على أن الشخص الغاضب متوازن بريء من الهوى، وبذلك يستحق أن توضع في يده أمانة المسؤولية.
2) ويدل على أن لَهُ هدفاً ومشروعاً لا تؤثر فيه بُنيّات الطريق، وبذلك يستحق ثقة الشعب.
3) ويدل على أن الرجل واسعُ الأفق متسعُ الصدر لا يأبه بجهل الجاهلين، وبذلك يأمن الناس غوائل الثأروالانتقام.
4) ويدل كذلك على أن الرجل ليس راكبا رأسه ولكنه مستعد للرجوع للحق متى نُبِّه إليه وبُصِّر به.
فهل كبار قومنا يستطيعون أن يملكوا أنفسهم عند الغضب إذا واجهتهم الشعوب بالحقائق وطلبتْ منهم إعطاء الحساب عن السنوات العجاف في كل ميدان؟؟ وهل يؤمَلُ منهم أن يغيّروا نظرتهم للمواطنين فيتيحوا لهم الإبداع في كل مجال بحرية وكرامة، وبذلك تحلُّ السياسةُ التعايشيةُ والتكافليةُ والتكامُليةُ محل السياسة الأمنية التي انتُهجت منذ عشرات العقود فلم تثمر إلا الخيبة وسوء الظن وانعدام الثقة. نرجو أن يتحقق هذا الأمل عما قريب، وخصوصاً إذا أطفأوا غضبهم بالوضوء والتضرع لله لا بالمحَرّم الذي يحرق الجسم والروح. وإلا فالناس تنتظر النهضات، والشعوب العربية تحت الكبت تنتظر -لا قدر الله- الهزات والسكتات عندما يقابِلُ الغضبُ الغضَبَ.