بدأنا الحديث في العدد الماضي عن الحكمة من الاصطفاء، وتعرضنا للنقطة الأولى، وهي : البحث عن الطاقات الكامنة في الأمة. وفي هذا العدد نتحدث عن بقية النقط وهي :
2- إرجاع الثقة للأمة بذاتيتها، بأن الخير لا ينقطع منها، وأن أرحامها مازالت تَلِدُ المبدعين لأساليب الحضارة البانية، فلسنا -كما يحب الآخر أن يصنع صورتنا- مجموعة من السُّذَّجِ البُلْهِ الذين لا يعرفون للحياة الكريمة معنى، ولا يقدِّرون المسؤولية حق قَدْرها فلَيْسَ مايُرى من التفريط في المسؤوليات والانحراف بها عن وجهها الصحيح طَبْعًا في الأمة، ولا أصيلا في دينها، ولكنه دخيل في حياتها وسلوكها ورثته من عصور الجمود والجهل والغفلة.
3- استمرار تجديد الدين : فالله تعالى تكفَّل باصطفاء من يحمل الحق صابراً محتسبا، عاملا به، داعيا إليه، مجاهداً في سبيله >لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين…< وهذه الطائفة بمقدار ثباتها على الحق، وحسن فهمها وعرضها له، بمقدار ما تتسع دائرة العاملين الناهضين لدَقِّ أجراس الخطر، وتجديد نِذارة النبوة، فيعود الدين غضا طريا، للنفوس المتعطشة له، وتعود الأمة لكتاب ربها، وكأنه نزل عليها من جديد يقود ويرشد ويستنهض الهمم الفاترة لتوديع أيام الدَّعة والراحة الرخيصة.
واجب الدولة في اختيار من يقوم بالدعوة :
قال تعالى : {ولْتَكُنْ مِنْكُم أمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ…}.
قال صاحب تفسير المنار : >إذا كان كل فرد من أفراد المسلمين مكلفا بالدعوة الى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمقتضى الوجه الأول -أي الوجوب العيني- في تفسير الآية، فهم مكلفون بمقتضى الوجه الثاني -أي الوجوب الكفائي- أن يختاروا أمة منهم -طائفة أوجماعة- تقوم بهذا العمل لأجل أن تتقنه، وتقدر على تنفيذه، إن لم يوجد ذلك بِطَبْعِه كما كانفي زمن الصحابة. فإقامةُ هَذِه الأمة الخاصَّةِ -بِمَعْنَى الطَّائِفَةِ أو الجَمَاعَة- فَرْضُ عَيْن، يَجِبُ علَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ مَعَ الآخَرِىنَ، ولا مشقة علينا في هذا، فإنه يتسير لأهل كل قرية أو مدينة أن يجتمعوا ويختاروا منهم من يرونه أهلا للدعوة إلى الإسلام في غير بلده -أو لإقامة بعض الفرائض والشعائر، أو إزالة بعض المنكرات من بلد آخر من بلاد المسلمين. وإلا فالواجب على أهل القرية أن يختاروا جماعة يصح أن يطلق عليها لفظ الأمة، ويعملوا ما تعمله بالاتحاد والقوة، ليتولَّوا إقامة هذه الفريضة فيها، كما يجب ذلك في كل مُجْتمَع إسلامي سواءٌ كان في الحواضر أو البوادي، فإن معنى الأمة يدخل فيه معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها كأنهم شخصٌ واحد في إقامة هذه الفريضة.
قال الأستاذ -يقصد محمداً عبده- : وهذه الأمة يدخل في عملها الأمورُ العامة التي هيمن شأن الحكام، وأمورُ العلم، وطرُقُ إفادته ونشْرِه، وتقريرُ الأحكام، وأمورُ العامة الشخصية. ويشترط فيها علم بذلك، ولذلك جُعِلت أمة، وفي معنى الأمة القُوَّةُ والاتِّحادُ، وهذه الأمور لا تَتِمُّ إِلاَّ بالقوة والاتحاد، فالأمة المتحدةُ لا تُقْهر ولا تُغْلَبُ من الأفراد، ولا تَعْتَذِر بالضعف يوماً ما، فتَتْرُك ما عُهِدَ إليها، وهو مَالَوْ تُرِكَ لتَسَرَّبَ الفسادإلى مجمُوع المسلمين<(1).
يستنتج من هذا أنّ من أوجب واجبات الدولة الإسلامية إيجاد مؤسسة دعويّة يشرف على تسييرها أخلصُ الناس، وأفاضلهم، وأفقههم بالشرع والعَصْرِ والمِصْرِ، وأبصَرُهم بالحق، وأعلمهم بمواطن الأدواء، هذه المؤسسة تَتَولَّى اصطفاء أَطْيَب العناصر البشرية ذكاء ونبوغا، وحُسْنَ سَمْتٍ، وجمال خُلُق، وعُمْقَ اهتمام وحِكْمَةٍ، فَتُصنّعهم تصنيعاً ربّانيّا، علماً وخُلُقاً وكفاءةً، ثم تمنحُهُمْ جميع الوسائل التي تساعدهم على أداء دورهم المحلي والعالمي بكفاءة تليق بشرف الرسالة التي تحمّلُوا أدَاءَهَا، فإن لم تستطع الدولة القيام بهذا فيجب عليها -على الأقل- تشجيعُ الجماعات التي تنهض للقيام بهذا الفرض نيابَةً عنهَا لتبْرأ الى الله تعالى من التقصير في هذا الواجب، أما أن تشجع بعضُ الدول العلمانيين والمرتدين والمجاهرين بالمحاربة لله والرسول، وأما أن تحارب بعضُ الدول العاملين للإسلام وتضيق عليهم الخناق بالمتابعة والمحاكمة والمقاتلة… فتلك هي الفتنة التي نسأل الله السلامة منها، واللُّطْفَ فيهاَ {واتَّقُوا فِتْنَةً لاَتُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} -سورة الأنفال-.
————-
1- تفسير المنار 37/4، 38، بتصرف بسيط.