عجبتُ لحكام عرب، كأنهم قُذفوا إلى الأرض من كواكب غيرها، أو كأنهم عفريت علي بابا، يعيش سجين مصباحه، فلا يطلع إلى النور إلا بعد فَرْكِ المصباح، ولمُهمة محددة، ثم سرعان ما يعود إلى العثمة..
ولِعَجبي كل أسباب الوجاهة، فما معنى أن يتحدث رئيس عربي عن ضرورة “الإصلاح من الداخل، قبل أن يفرض على العرب الإصلاح من الخارج”؟؟
هل تعني هذه النظرية سوى إحدى فرضيتين، أولاهما كما أسلفنا أن يكون هذا الرئيس غير محيط بخلفيات التحركات الاستعمارية الجديدة لأمريكا ومن ورائها إسرائيل. والفرضية الثانية وتبقى الأرجح، وموجزها أن يكون هذا الكلام على عواهنه مجرد كلام عابر للإستهلاك الإعلامي وسرقة الأضواء المجانية لمزيد من در الرماد في عيون الشعوب المغلوبة، في الوقت الذي غدا فيه العالم لا عبارة عن قرية صغيرة، بل مرآة عملاقة تنعكس عليها كل حركات ساكني هذا العالم.
وما قاله الشاعر قديما، يَصْدُق في أحوال اليوم :
ومهما تكن عند امرء من خليقة
إن خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ
وبالتالي فحدثا كأسلحة الدمار الشامل بالعراق والذي كان الحديث فيه رَجْما بالغيب، أصبح اليوم مُستهلكا، ويَعلم القاصي والداني أن لا أسلحة دمار شامل بالعراق..
وزعيما عربيا “كصدام حسين” الذي قيل الكثير عن مقابره الجماعية، وجزر ديكتاتوريته الممتدة بلا حدود، والتي أَمْلَتْ بالنتيجة كما يقول استعماريو البيت الأبيض وتل أبيب اجتياح العراق، هذا الزعيم قيل مؤخرا بأنه لوكان طيعا كصنوه في ليبيا لما تم اجتياح العراق.
وهذا الاجتياح الأمريكي الذي قيل بأنه سيُستقبل في العراق بالزهور والأحضان، ها هو يبدو في صور كل كاميرات العالم بشعا، همجيا قاسيا ومذكرا بغابوية الغرب في القرون الوسطى.
إذن فلا حاجة للاستمرار في نهج سياسة استغفال الشعوب والأمم، لأن الانفتاح الإعلامي الهائل فَضَحَ المستور، ويصدق فيه المثل المصري الحصيف : ” يا خَبَر بفلوس بُكره بِبَلاَش”.
وبالعودة إلى مقدمة هذه الأوراق، وبخصوص التصريحات العربية الرسمية حول ما يسمى بمشروع إصلاح الشرق الأوسط الكبير، فقد كان أَجْدَر بالزعماء العرب أن يرفضوا الإملاءات الأمريكية جملة وتفصيلا، لا بطريقة “نَعَمْ لَكِنْ”… ويعتبروها هَرطقَاتِ مَرْضى بجنون العظمة، ويتَأَسَّوا في المقابل بدروس المقاومة اللبنانية والفسطينية والعراقية..
ولنقف عند الدرس العراقي الخارق العِبر، إنّ مدينة صغيرة ‘كالفلوجة’ الماجدة، جعلت الإدارة الأمريكية تفقدُ صوابَها، وتفضحُ مراميها الحقيقية كعدوة إستعمارية قد تلجأ إلى الشراسة المطلقة إذا ما تَمَّتْ مقاومتها ببسالة واستماتة، وهو ما حدث في “الفلوجة”، حيث رأينا الطائرات الأمريكية وأمام أنظار العالم، تقصف مدنيين، جلهم من النساء والأطفال، بل والرضع، بكل الجنون والإرهاب الممكن انتقاما من مقاومة لم تستطع لها رَدّاً. وبالتالي فالعتاد الضخم والأساطيل العملاقة قد تصبح مُجَرَّد “قْشَاوَش” ولعب أطفال، أمام شعب رفض الحرية المعجونة بالإذلال والإستعباد، وآثر الجهاد في سبيل الله، إستجابة لقوله سبحانه : {قاتلوا الذين يُقاتلونكم} وتصديقا لقول الشاعر :
إذا لم يكن من الموت بُدٌّ
فمن العجز أن تَمُوتَ جَبَاناً
الفلوجة إذن بصمودها وعزة مواطنيها كما كل العراقيين عرفتْ بل أدركت أن أسطوانة الحرية والكرامة و الإصلاحات باطل يراد به باطل، فلما لا يتعلم الزعماء العرب قليلا من دروس الشموخ هاته؟؟..
ولما لا يضغطوا في اتجاه المرور إلى السرعة القصوى باعتماد سياسة الهجوم على أمريكا وربيبتها عوض سياسة “القفقافا” الدليلة إزائهما..
فدولة عظمى كأمريكا تهدم دولة صغيرة وتقتل نسائها وأطفالها وتسْرق تاريخها وتهين بشكل شرس رئيسها، وتضرب الديمقراطية في مقتل بتعيين فوقي لرجال ونساء على رأسها، وفيهم أصحاب السوابق؛ وبدون أدنى استشارة شعبية، ودولة عظمى تسند كيانا غاصبا وتعتبر رئيسه الدموي حمامة سلام ودَوْلتَه اللقيطة إسرائيل جزيرة ديمقراطية!! وسط شرق إسلامي مستبد، ودولة عظمى تعتقل مواطنين على السريرة والطوية الإرهابية وإن ثبتَ العكس، وتحتجزهم مُصَفدين كالقرود، صباح مساء أيْدٍ وأرْجُلاً، وفي مَعْزلِ گوانتناموا الشبيه بمنفى سِيبيريا، ثم تباشر إطلاق سراحهم بمجرد نوبة مزاج، وبلا محاكمة بدءاً أو أخيرا!!..
ودولة تزرع آلاف جواسيسها وقواعدها للتلصص على البلدان الآمنة وزعزعتها لمجرد الإشتباه في عدم انضباطها لمسطرة الإمبريالية أو لاختيارها طريق الديمقراطية بحق والتي قد يعادي أصحابها، خطها الإستعماري..
ودولة تريد أن تنمط العالم برمتة وخاصة الإسلامي منه وتسلخه من هويته بحجة إرهابية هذه الهوية وظلاميتها..
ودولة طائشة تسوق أبنائها بالملايين رهائن للذبح والحرق في مختلف بؤر الصراع التي تصطنعها، بحجة نشرها للديمقراطية وقيم العدل والحرية..
نقول، إن دولة بهذا السجل الفضائحي الطويل المظالم بلا نهاية، لا يجب أن تحرك في الشعوب أو الزعماء العرب شعرة واحدة، لأن اليد الوالغة في الدماء والقهر لا يمكن أن تنير ظلمات الشعوب ولأن الحكم القائم على الظلم كما يقول “عبد الرحمان الكواكبي، لا يمكن أن يدوم..
وعلى هذه الشعوب وزعمائها في المقابل أن يستحضروا قول الفيلسوف اليوناني “الظلم من طبع النفوس وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين إما علة دينية لخوف مَعَادٍ أو علة سياسية لخوف سيف”.
وسيف المسلمين يبدأ من الداخل بالجهاد الأكبر جهاد النفس لإصلاحها إرضاءا لله سبحانه وتعالى لا لأمريكا، وحينذاك سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.