رحلة عدم الاعتبار
بدأت رحلة محمد علي(1769/1849م) بثورة شعبية ناقمة على الاحتلال الفرنسي لمصر،قيادتها من العلماء ومادتها الجماهير وأوساط من الجند والعساكر. وبعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بإشاعة العدل والنهوض بالبلاد وحماية استقلالها، قبل الضابط الشاب الشروط، لكنه سرعان ما انقلب إلى مستبد مطلق الصلاحيات، يملك الأرض، ما عليها ومن عليها.
لم يتورع عن اضطهاد العلماء والتنكيل بهم وقتلهم وكبت أصواتهم.وفرض الضرائب القاسية على الفلاحين ليؤمن الأموال لبناء جيش سيغزو به جيرانه، حيث استولى على شبه الجزيرة العربية وضرب الحركة الوهابية، واتسعت طموحاته لتصل إلى الشام، إنه في هذا لا يختلف عن كثير من بناة الإمبراطوريات في الغرب، هذا الغرب الذي دعمه بالسلاح والخبراء في ميادين الصناعة والزراعة والتكنولوجيا والإدارة حتى أصبح قوة لا تقهر في الشرق آنذاك، استغلته الدول الأوروبية لضرب الخلافة العثمانية وزعزعة استقرارها الهش…لقد تحققت”نهضة”كبيرة في ظل حكم فردي أعمل السيف بلا رحمة في رقاب خصومه ومـعارضيه.
لكن مشكلة محمد علي أنه لم يفقه ميزان القوى الذي كان في غير صالحه رغم النهضة التي أحرزها، حيث بقيت إنجازاته ضمن سقف تتحكم فيه الدول الكبرى ولية نعمته مثل إنجلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا…
لذلك فعندما أراد أن يتخطى الحدود الحمراء في مجال القدرات العسكرية والاقتصادية،كان الاتفاق الأوروبي على تحييده وإعادته إلى حجم تقدر على ضبطه وترويضه وربما سحقه إذا اقتضى الحال.
وهكذا كانت تجربة محمد علي- رغم اغترافها من معين الغرب وتهميش الذات الحضارية الإسلامية- تجربة فاشلة بالمقاييس الحضارية، وانتهت إلى حكم ملكي وراثي كانت نهايته مع ثورة جمال عبد الناصر وزمرته سنة1952م.وبعدها بسنوات قليلة ظهر صدام حسين في العراقليؤسس لتجربة تتشابه قسماتها إلى حد بعيد مع تجربة محمد علي.فهو زعيم الثورة وقائدها الملهم ومنظرها الفذ، وهو باني قوتها العسكرية والتكنولوجية بدعم من الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو قاتل العلماء ومضطهد الدعاة، وقامع المعارضين، ومشرد الأسر ومييتم الأطفال و…وهو الذي سخر قوته العسكرية للعدوان على الجيران: فقد حارب إيران قرابة عقد من الزمن، وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى عاود الكرة مع الكويت، حيث احتلها وشرد أهلها وقادتها، فما كان من الممون الغربي له بالسلاح- بعد أن أصبحت مصالحه مهددة – إلا أن يسحقه ويخرجه ذليلا مدحورا من الكويت في ظل ميزان قوى مختل بشكل فظيع لصالح الغرب.وبعدما قلمت أظافره بنزع أسلحته المدمرة والمعمرة، الحقيقية والوهمية، وبعد أن جوعت شعب العراق ومنعت عنه الدواء،حكمت الولايات المتحدة عليه بالفناء، فكانت (حرب العدالة المطلقة) التي انتهت بالقبض على الزعيم في جحر من جحور مسقط رأسه.
إنه رغم اختلاف تجربتي كل من محمد علي وصدام حسين في التفاصيل والجزئيات، إلا أنهما تكادان تتطابقان في العموميات كما ترى أخي القارئ، أختي القارئة.
وإذا كانت من ميزة للأوضاع الإسلامية والعربية في عهد محمد علي على الأوضاع في عهد صدام حسين، فتتمثل بذلك القدر من الاستقلالية والوحدة والاكتفاء الذاتي والشخصية الإسلامية التي كانت الخلافة العثمانية تمثلها إلى حد ما، قياسا بأوضاعنا الراهنة الغارقة في التجزئة والتبعية والإلحاق بالنمط الغربي.
لقد أثبتت كلا التجربتين- بعد أن وصلتا إلى أوجهما من حيث القوة العسكرية – أنهما غير قادرتين على الصمود أمام القوة العسكرية والاقتصادية الغربية، لأنهما فقدتا شرطا مهما للغاية وهو العودة إلى العلماء والإسلام حكما وعملا وشورى.
إن التاريخ حقا يعيد نفسه…
أزمة زعماء تدفع الأمة ضريبة تفاهتهم تارة وخيانتهم تارة و…
فمتى يقيض الله لهذه الأمة زعيما تصلح به الأحوال وتدفع به الأهوال؟…
ما ذلك على الله بعزيز.