فوسط هذا التحول الذي جرف معه الأدب العربي، والشعر منه بخاصة في اتجاه لا تزال آثاره حاضرة إلى اليوم، يقوى أحيانا ويضعف حينا أخر ظهرت كوكبة من الكتاب والأدباء أوائلَ الستينيات، بادرت منذ اللحظات الأولى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأدب العربي، حين دعا الشيخ أبوالحسن علي الندوي رحمه الله إلى “أدب يخرج من أعماق القلب ليصل إلى أعماق القلب ويبقى فيها، هذا هوالأدب الذي يحتاج إليه لا أقول العالم الإسلامي فقط، بل يحتاج إليه العالم الإنساني كله، أُتْخِمْنَا يا إخواني من هذا الأدب الطاميِّ الذي يطلع علينا صباحا ومساء، والذي نرى فيه صورا وتماثيل لا حياة فيها، إننا نحتاج الآن إلى أدب ينفخ في نفوسنا حياة جديدة وروحا جديدة، هذا هوالأدب الحيُّ”(1).
من هنا ولدت فكرة الدعوة إلى أدب إسلامي ملتزم ينفرد بمقوماته عنْ كل المدارس الأدبية التي كانتتعجّ بها الساحة العربية والإسلامية، وقد حمل لواء هذه الدعوة رواد أوائل على رأسهم الشيخ أبوالحسن علي الندوي وسيد قطب ومحمد قطب ونجيب الكيلاني وعماد الدين خليل وسواهم، وقد أدركوا أنه ما دام لكل تيار فلسفته الخاصة يصدر عنها في تفكيره وإبداعه، فمن الطبيعي أن تقوم طائفة من الدعاة تدعوإلى إبداع إسلامي يسير جنبا إلى جنب مع الصحوة الإسلامية التي كانت قد بدأ عودها يشتد بعد أن شقّت طريقها بثبات وبخاصة في مصر، فكُلّ أمة تَدِين بِدِينٍ ما، سواء كان سماويا أووضعيا إلا وحاول مبدعوها ـ جهد الإمكان ـ إبراز هذا الدين في كل ما ينْثُرون أويُشْعِرون، فالطابع “المسيحي ظاهر في إنتاج أدباء المسيحية، والطابع اليهودي أشد وضوحا في إنتاج أدباء اليهود، والطابع البوذي ظاهر في عطاء أدباء الهند والصين، وإن كان بين بوذية الهند وبوذية الصين اختلاف يظهر أثره في الأدبين، كما ظهر الفرق بين الكوميديا الإلهية لدانتي التي ظهر فيها الطابع المسيحي الكاثوليكي، والفردوس المفقود لميلتون التي ظهر عليها الطابع المسيحي البروتستانتي، ونفس الشيء ظهر في الأدب الكَنَدِي، فما كان بالفرنسية ظهر عليه أثر فرنسا الكاثوليكية وما كان بالإنجليزية ظهر عليه أثر إنجلترا البروتستانتية “(2).
وأكثر من ذلك نجد بأن شاتوبريان وفيكتور هوجوذهبا “إلى أن الحضارة المسيحية يلائمها شعر ذوطابع مسيحي، لأن من لوازم المجتمع أن يكون له أدب منسجم مع عقائده، ومن هنا تَحَتَّمَ أن تحل العقائد المسيحية محل العقائد الوثنية التي كانت تصبغ الأدب اليوناني الوثني”(3).
وما يقال عن الأديان، يقال عن الفلسفات أيضا، فكل الفلسفات الكبرى “أفرزت آدابا وانطلقت من قيم معينة، فسميت آدابها بأسمائها، وتمتلئ ساحات الآداب المعاصرة اليوم بأسماء لها دلالاتها وعلاقاتها بتصورات فلسفية متباينة : الأدب الاشتراكي أوالماركسي، أوالواقعي الاشتراكي، الأدب العَبَثَيُّ، أدب اللاّمعقول، الأدب التبشيري أوالتنصيري أوالمسيحي، الأدب الصهيوني، حتى الرومانسية والكلاسيكية والرمزية والفرويدية والطبيعية وغيرها، كلها نبتت في ëأرضية فلسفيةi معينة، فلا نرى لونا من ألوان الأدب في أوربا مثلا، إلا وارتبط تنظيره بفيلسوف من الفلاسفة المحدثين أوالقدامى فلماذا يعاب على المسلمين بالذات دعواهم إلى الأدب الإسلامي؟ “(4).
وعلى هذا الأساس فإن لكل إبداع أسساً ومنابت يمت من خلالها بصلة من الصلات إلى دين أوفكر معين يصدر عنه أيّاً كان، ويحاول جاهدا أن يرسخ ما يؤمن به في ذهن المتلقي عبر مختلف الطرق الفنية المؤثرة من اللغة إلى التصوير وحتى الإيقاع، وبالتالي فمن الطبيعي والمنطقي أن الأدب الإسلامي ينموويترعرع في ظل القرآن الكريم ورحابه ينهل من فيضه، ويغتني بمنهجه وأسلوبه ونماذجه ويستمد منه عناصر الصدق والطهارة والقوة والدقة والأمانة ويستشرف منه الغاية ويغتنم الوسيلة”(5)، وكان طبيعيا أيضا ـ تبعا لذلك ـ أن يشتد الصراع بين دعاة الأدب الإسلامي ومعارضيه، وقد اتخذ هذا الصراع أشكالا مختلفة ليس هذا مجال التفصيل فيها، وربما تجاوز فيها أنصار الحداثة كل حدود “حرية التعبير ” بهجوم شرس على المقدسات وعلى ذات الله عز وجل وعلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، حتى ترسَّخ لدى دعاة الأدب الإسلامي بخاصة، ولدى عموم المسلمين ما عبر عنه عمر عبيد حسنة بقوله :”لقد أصبح من الأهمية بمكان أن ندرك أن الصراع بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة أَبَدِيٌّ، وأن المعارك الفكرية هي الميدان الحقيقي للمعركة، وأن الله سبحانه وتعالى جعل سلاح المسلم الدائب هوالمجاهدة بالقرآن الكريم”(6).
———–
1- نظرات في الأدب، الشيخ أبوالحسن علي الندوي، دار القلم 1988 ص 110 .
2-ـ الأدب الإسلامي ضرورة، ص 74 ـ 75 .
3- نظرية الأنواع الأدبية، عن المرجع السابق، ص 67 .
4- مدخل إلى الأدب الإسلامي، الدكتور نجيب الكيلاني، كتاب الأمة، العدد 14، ص 39 ـ40 .
5- نفسه، ص 41 .
6- من مقدمته للمرجع السابق ص 8 .
د.بنعيسى بويوزان