تقديم:
يعبر الواقع الدولي عن نسق من العلاقات بين مكوناته (دول، منظمات، هيئات، اتحادات، شركات دولية…) وفق قوانين ومصالح ترسخت تقاليدها خلال العصر الحديث كله حيث شهدت تطورات وتغيرات ظاهرية لكنها ظلت تحكمها ثوابت ومقاصد وأهداف يتم تحقيقها وفق مقتضيات الحال والمقام والزمان والمكان.
ويسعى هذا المقال إلى الوقوف على دلالات مفهوم الواقع الدولي، وخصائصه ومكوناته ومستجداته وأخيرا إبراز عيوبه وتأثيراته السلبية.
فما هو الواقع الدولي؟ وما هي خصائصه وثوابته؟ وما هي آليات عمله؟ وما هو واقع السياسات الدولية؟ وهل لنظام العلاقات الدولية تأثير في صنع هذه السياسات إحداثا أو إنهاء أو تغييرا لمجرياتها؟ وما مآل أي قرار سياسي أو حدث دولي محلي أو إقليمي لا يستحضر معطيات الواقع الدولي ولا يراعيها؟
أولا: تعريف مفهوم النظام الدولي وواقعه:
يعبر عن الواقع الدولي بمجموعة من المصطلحات منها: النظام الدولي، والنظام العالمي، والنسق الدولي، والمجتمع الدولي، والسياسة الدولية، والعلاقات الدولية، وغيرها من المصطلحات المتقاربة في دلالاتها، ونفضل استعمال لفظ الواقع الدولي أو العالمي لاعتبارات عدة، منها:
- كونه واقعا حاصلا وإن لم يكن هو المتوقع المأمول.
- لأن علاقاته الدولية أو سياساته وإن ظلت ثابتة تحكمها كثير من الأعراف الدولية المستقرة لفترة زمانية إلا أنها لا تنفك ترتبط بواقع الفاعلين وعلاقاتهم ومراكز القوة التي لم تتوقف عن التغير والتحول.
- أن الفاعلين الكبار لم يفلحوا في أن يحققوا للعالم الأمن والاستقرار والنظام المطلوب. لذلك فإطلاق مصطلح النظام الدولي إطلاق فيه قدر كبير من التجوز، بالنظر إلى حجم الفوضى والاضطرابات التي تسود علاقاتها.
لكن ما هو النظام العالمي المعاصر؟ وما طبيعة مكونات الواقع الدولي وعلاقاتها؟
عرف مفهوم النظام الدولي بعدة تعريفات أبرزها:
أ- هو الإطار المؤسسي والدبلوماسي والسياسي والقانوني المنظم للعلاقات الدولية خلال فترة تاريخية معينة. ويعد تفاعل الوحدات السياسية لهذا النظام (دول العالم) تعاونا وتنافسا وحربا هو المحرك الأكبر فيه، إضافة إلى كل إطار تنظيمي قادر على التأثير في واقع العلاقات الدولية، مثل المنظمات والحركات السياسية والشركات الكبرى ذات النفوذ العابر للحدود.
ب- مجموع أنماط التفاعلات والعلاقات بين الفاعلين السياسيين ذات الطبيعة الأرضية (الدول) التي توجد خلال وقت محدد.
ج- مجموعة التفاعلات أو شبكة علاقات القوى، التعاونية منها أو الصراعية على حد سواء، التي تتم بين أعضاء المجتمع الدولي على المستويين العالمي والإقليمي، والتي تجري وفقاً لنسق أو منظومة معينة للقيم.
د- مجموعة المبادئ والاهداف والنظم التي تقوم عليها العلاقات بين الدول كبيرها وصغيرها.
هـ- مجموعة قواعد التعامل الدولي الناتج من التفاعلات الدينية والسياسية والاقتصادية الحاصلة بين القوى الكبرى وأثرها في العالم كله في مرحلة تاريخية معينة.
يستفاد مما سبق أن الواقع الدولي قائم على عدد من الخصائص والمكونات منها:
- وحدات (هي الدول والمؤسسات الدولية).
- القوانين المنظمة لوجودها وتفاعلها.
- العلاقات التي هي علاقات تعاون وتكامل أو تنافس أو صراع وحرب؛ كما أنها علاقة شبكية نسقية عضوية في أغلبها أفقيا بين قطاعاته السياسية والعسكرية والاقتصادية والإيديولوجية والفكرية، ونسقية أيضا عموديا بين ما هو محلي وما هو إقليمي وما هو دولي عالمي.
- أن أحداثه لها تأثيرات تتجاوز محلها إلى محيطها الإقليمي والعالمي، وأن أزماته لا تمس قطاعا واحدا بل تسري العدوى في جميع قطاعاته.
ثانيا- خصائص الواقع الدولي في ثوابته ومتغيراته:
رغم أن الواقع من سماته الأساسية التغير وعدم الثبات إلا أنه مع ذلك يمكن البحث عن ملامح عامة وشبه ثابتة تشكل خصائص النظام الدولي الحالي وتحكم علاقاته التي من شأنها أن تساعدنا على تفسير أحداثه السريعة التغير التي لا يكاد يجمعها خيط أحيانا. ومن بين السمات العامة لواقعنا الدولي المعاصر نذكر ما يلي:
أ- البعد الإيديولوجي: على تنوع الفاعلين في المشهد الدولي، ورغم اختلاف الأنشطة الدولية والمسميات، فإن النظام الدولي في بعده الشمولي والإقليمي للكيانات الكبرى ومنظماته تحكمه إيديولوجا الجهات المتحكمة فيه وقناعاتها الفكرية (العلمانية) والدينية، لذلك فقد شُكِّل العالم عبر تطوراته الحديثة والمعاصرة على أساس تحكم هذه المعتقدات وأصحابها في مصير الشعوب.
وهذا ما يفسر لنا سبب قيادة الغرب ومباركته لحملات التنصير العالمي في الأمريكيتين، وأفريقيا وآسيا وأستراليا، وحماية الأقليات المسيحية في العالم.
ب – القوة: يقوم الواقع الدولي على الإيمان بالقوة والصراع، والردع، والإيمان بأن القوة هي الوسيلة لإخضاع الخصوم، وإرغامهم على تنفيذ ما يُملى مما يخدم مصلحة الأقوياء، سواء أكانت هذه القوة مادية مباشرة أو قوة غير مباشرة. ويمكن إبراز مجالات القوة في واقع العلاقات الدولية ومظاهرها في الأنواع الآتية:
- القوة العلمية المادية: في مختلف العلوم المادية والتقنية والطبية والبيولوجية والإنسانية والإدارية التي تحقق التفوق والتقدم والسبق على الآخر.
- القوة العسكرية: تعتبر القوة العسكرية نتيجة طبيعية للقوة العلمية، ويعتبر معيار التفوق العسكري عُدَّة وعددا وتقنية واحدا من أهم أنواع القوة التي لجأت إليها الدول الكبرى المتحكمة في القرار الدولي، والتي تراهن عليها الدول التي تجتهد للدخول إلى المشهد الدولي العالمي، وتعتبر القوة العسكرية سلاحا للردع وتوازن القوى، وأداة لاكتساب الهيبة الدولية، والواقع الدولي المعاصر -وحتى القديم- تحكمه القوة العسكرية؛ وتتجلى هذه القوة في ما يلي:
- امتلاك الدول الكبرى للقوة النووية.
- انتظام هذه الدول في شكل مجلس عالمي يمتلك حق التدخل العسكري؛ وأعلاه مجلس الأمن، الأمم المتحدة، الحلف الأطلسي (الناتو).
- امتلاك الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن حق استعمال القوة ضد أي تهديد من الصغار، وإشهار ورقة الفيتو عند الاعتراض عليها وعلى سلوكها العنيف (حالة التدخل السوفييتي في أفغانستان سابقا، والتدخل الأمريكي في أفغانستان لحرب تنظيمي طالبان والقاعدة سنة 2001، والتدخل الأمريكي والبريطاني في العراق سنة 2003، والتدخل العسكري الروسي في سوريا ابتداء من 2015).
- الاستئثار بحق الصناعات العلمية الحيوية دون الدول الضعيفة حسب تقسيم العمل الدولي.
- القوة الاقتصادية: اتخذ الواقع الدولي منذ بدايات تشكله إلى يومنا هذا القوة الاقتصادية عاملا أساسا من عوامل التفوق على الخصوم، ومعيارا من معايير القوة والاعتراف للدخول في نادي الكبار عالميا، وبعد الحرب العالمية الثانية صار التفوق الاقتصادي يمثل واحدا من أهم وأبرز العناصر للدخول إلى التأثير في السياسات الدولية المحلية والإقليمية والعالمية؛ ويعتبر النموذج الصيني خير مثال على ذلك فقد غزت الصين العالم بقوتها الاقتصادية أكثر من القوة العسكرية. وأصبحت التحالفات الاقتصادية وبناء المؤسسات المالية والاستثمارية الكبرى واحدة من أهم وسائل التأثير العالمي والضغط على الموالف والمخالف معا. كما أن المقاطعة والعقوبات الاقتصادية أصبحت إحدى الإجراءات الفعالة في الردع والتأديب في الواقع الدولي.
- القوة التكنولوجية والمعلوماتية: وهذا النوع من القوة تابع للقوة العلمية والصناعية لكن تفصيلها وإبرازها مطلوب لقوة تأثيرها في صناعة السياسات العالمية. وقد أصبح السبق في هذا المجال مفتاحا رئيسا في صنع القرار الدولي والتأثير في سياسات الدول، ومفتاحا للسبق الاستخباراتي والمعلوماتي والعلمي، في كل مجال، ولذلك لا مكان لأي دولة لا تملك أسرار الصناعات التكنولوجية الدقيقة المتعددة الاستعمالات في جميع المجالات الحيوية بدءا من العلوم البيولوجية إلى علوم الفضاء، ومن الاستخدام السلمي إلى الاستخدام العسكري. ومما يدل على قيمة هذا النوع من القوة هو أن الحروب المستقبلية ذات التأثير الخطير والمدمر والمؤثر في الخصم هي الحرب الإلكترونية.
- القوة الإعلامية: وهي قوة رغم ما يظهر من استقلال كثير من القائمين عليها أفرادا ومؤسسات إلا أنها في نهاية المطاف تديرها المؤسسات الاستخباراتية ووكلاؤها، فيتم التحكم في المعلومات كما وكيفا ونوعا ووقتا، وأصبحت الحروب الإعلامية أكثر أنواع الحروب التي تفوقت فيها الدول الكبار على غيرها، وبها يتشكل الرأي العام، وتقاد الجماهير سياسيا واقتصاديا، وتنفق الدول على المجال الإعلامي نفقات كبيرة توازي أحيانا إنفاقها على المجالات الحيوية.
ج- التدخل في صنع سياسات الدول الضعيفة والدول الإقليمية: وذلك بما يخدم مصالح الكبار؛ وهذا التدخل نوعان: الأول تدخل مباشر عنيف، والثاني تدخل غير مباشر؛
فالأول يتمثل في حالات الاستعمار في القرون السابقة، وحالات التدخل العسكري في الفييتنام، وكوبا وأفغانستان والعراق وسوريا…
والثاني تمثله المعاهدات والتحالفات الدولية التي ترهن سياسة الدول الصغيرة بحكوماتها وأحزابها في مختلف القطاعات سياسيا واقتصاديا وقانونيا وتعليما واجتماعية بما تفرضه دول الجذب المركزي. وهنا نستحضر نموذج المستعمرات التي لم تستطع الخروج من ربقة المستعمر فقد بقي العالم مقسما تقسيما استعماريا؛ دولٌ تابعة للاستعمار الاسباني وأخرى للفرنسي، وثالثة للإنجليزي، ورابعة لروسيا والصين وغير ذلك. والسياسات في هذه البلدان المستعمرة لا تصاغ بشكل حر إلى يومنا هذا.
ولا يبالغ المرء إذا قال بأن أهم خصائص الواقع الدولي الذي تم إرساؤه وتسويقه على أساس أنه النظام العالمي هي حق الدول الكبار بالتحالف أو بالانفراد بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الصغيرة بتغيير أنظمة الحكم أو تأييدها وتشجيع المعارضة ودعمها أو اللعب على التناقضات والتوازنات. وتاريخ الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي خير شاهد على ذلك. وأصبح هذا التدخل في هذين العقدين أشرس وأقوى في العالم الإسلامي.